مشاركة مصرية متميزة.. فى المولد النبوى بالمغرب: علماء وصحفيون وصوفية يؤكدون “حب الأوطان من الإيمان” د. عبدالفتاح العوارى: القيم الدينية والوطنية.. وجهان لعملة واحدة
الحسينى الرضوانى: أبطال الأمة.. تربوا على أيدى العلماء
كتب/ مصطفى ياسين
شهدت فعاليات الدورة الثامنة عشر للملتقى العالمي للتصوف، تحت الرعاية السامية لجلالة الملك محمد السادس، ملك المغرب، بمناسبة الاحتفال بالمولد النبوي، مشاركة مصرية متميزة لعدد من العلماء والصحفيين ورجال الأعمال ومريدى الصوفية، وحملت الدورة عنوان “اﻟﺘﺼﻮف واﻟﻘﻴﻢ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ واﻟﻮﻃﻨﻴﺔ من أجل تأسيس مواطنة شاملة”، فى الفترة من 8 ربيع الأول حتى 13 منه، الموافق 23 إلى 28 سبتمبر، والذى تنظمه الطريقة القادرية البودشيشية ومشيختها، برئاسة العارف بالله مولاي جمال الدين القادري بودشيش، رضي الله عنه، ومؤسسة الملتقى، بشراكة مع المركز الأورومتوسطي لدراسة الإسلام اليوم، ومؤسسة الجمال.
حيث عرض د. عبد الفتاح العواري، عضو مجمع البحوث الإسلامية، رئيس مركز الإمام الأشعري، عميد كلية أصول الدين سابقاً، لتأصيل القيم الوطنية شرعيا، مؤكداً أن القيم الدينية والوطنية متأصلة شرعيا، وتتحقق بالاستجابة لله ورسوله وهى الحياة الحقيقية التي يعيشها الأفراد في وطن واحد يجمعهم، مشيراً إلى قيم الأخوة والكرامة الإنسانية ،السلام، صيانة النفس، المساواة ،الوفاء بالعهود والمواثيق ،التسامح، موضحاً دور التصوف فى استقرار المجتمعات وتحقيق القواسم المشتركة من خلال ترسيخ القيم الدينية والوطنية وتطبيقها واقعاً معاشا. مشيراً إلى أن الشريعةَ الإسلاميةَ بنصوصها العامة وقواعدها الكلية أصلت لتلك القيم الوطنية , فمن ذلك قوله تعالى في شأن الأنصار: “وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ” والمقصود من الدار أي سكنوا المدينة واعتنوا بها بما يحقق الحياةَ فيها من زراعةٍ وتجارةٍ وحمايةٍ لها وفي هذا دلالةً على حُبِّ الأنصارِ لوطنهم وبلدهم ،ثم تأتي طاعة ولاة الأمر وهي لا تقع الا من افرادٍ تجمع بينهم وبينه حقوقٌ وواجبات فهم رعية وهو راع , فله عليهم حقُ الطاعةِ في غير معصيةِ اللهِ , ولهم عليه القيام بما يجب عليه نحوهم من سياسةِ امر معاشهم ودنياهم بدينِ الله وشريعته وعند وقوع التنازع والاختلاف عليهم جميعاً ،راعٍ ورعيةٍ، ان يرجعوا ويحتكموا إلى أمر الله ورسوله ليرتفع الخلاف ويحل الوفاق والوئام.
الحياةُ الحقيقيةُ
يضيف د. العوارى: والحياةُ الحقيقيةُ في الدنيا إِنَّمَا يعيشها أفرادٍ يجمعهم وطنٌ واحد على اختلاف ألوانهم وأعرافهم وأعراقهم ولغاتهم , ولقد ظهرت الوطنية في أسمى صورها وبلغ حبها أعلى المراتب في هذا التطبيق العملي الذي مثلت حالته حنين وشوق سيدنا رسول الله حينما أخرجه قومه من مكة حيث نظر اليها قبل ان تتوارى دورها ومبانيها فقال : “مكة إنك لأحب بلاد الله الى الله وإنك لأحب البلاد الي ولولا ان قومك اخرجوني منك ما خرجت” ,وحينما استقر بالمدينةِ المنورةِ تَعَلَّقَ قلبُه بها تعلقاً شديداً حيث دعا لها بقوله : ”اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَفِي مُدِّنَا، وَصَحِّحْهَا لَنَا، وَانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ” ،بل تعلق قلبه بأهلها وآثرهم على الجميع حيث قال لهم: “يا معشر الانصار ألا ترضون ان يعود الناس بالشاء والبعير وترجعون انتم برسول الله؟ اللهم اغفر للأنصار وابناء الانصار وابناء ابناء الانصار المحيا محياكم والممات مماتكم”. هكذا تتجلى قيمةُ الوطنيةِ في حبِ سيدنا رسولِ اللهِ لوطنه الذي نشأ فيه ووطنه الذي آواه واستقبله وفداه بالنفس والنفيس .
بل المتأملُ فيما شرع الله من أمر الجهاد يجده إنما كان من أجل الدفاع عن الاوطان وحمايتها وحفظ مقدساتها وإبعاد أي عدوانٍ لمعتدٍ عليها فقال سبحانه : “وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّهُدِّمَتۡ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٞ وَصَلَوَٰتٞ وَمَسَٰجِدُ يُذۡكَرُ فِيهَا ٱسۡمُ ٱللَّهِ كَثِيرٗاۗ وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ” ،وهكذا ترى نصوصَ الشريعةِ الغراءِ أَصَّلَتْ للقيمِ الوطنيةِ في شتى جوانبها حتى يعرف الناسُ قدر أوطانهم.
استطرد د. العوارى: وأما التأصيل الشرعي للقيم الدينية فباستقراء نصوص الكتاب والسنة وقواعد الشريعة الكلية يرى الباحث المنصف أنَّ شريعةَ الإسلامِ اهتمت اهتماماً بالغاً بالقيمِ الدينيةِ سواء في مجال العقيدة أو العبادات أو المعاملات او السلوك والأخلاق، فجاء الإسلام بقيمٍ عظيمةٍ محكمةٍ حمت الإنسان وحفظته وحققت له السلم في الأرض التي يعيش عليها وكفلت له حق الحياة الكريمة ومنحته الحريةَ التامةَ , وقد أحاط القران الكريم أصول هذه القيم بسياجٍ منيعٍ كما احاط ايضاً بأصول ما يلزم لحفظ مقاصدها.
ومن جوانب تحقيق المسالمة لغيرنا من المخالفين لنا أيضاً : القضاء على التطرف والعنف والإرهاب الذي ترتكبه حفنة حمقاء باسم الدين , والدين من أفعالها براء , لأن ديننا أوجبَ علينا أن ندفع سيئة من يسئ لنا بالحسنة, وأن نقابل أذاه بالصبر والاحتمال , وهذا من محاسن الأعمال وأفضلها , وأقدرها على قلب عداوة العدو وداً وحباً , وعلى تحول خصومته مسالمةً وسلماً , يقول تعالى لنبيه : “ٱدۡفَعۡ بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ ٱلسَّيِّئَةَۚ نَحۡنُ أَعۡلَمُ بِمَا يَصِفُونَ. وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنۡ هَمَزَٰتِ ٱلشَّيَٰطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحۡضُرُونِ”.
مصابيح الأوطان
ويصف الشيخ الحسيني محمد رضوان، المشرف العلمى على الساحة الرضوانية بالأقصر، الصوفية بأنهم أصحاب الترياق المجرب والدواء المطبب لقلب الإنسان ونفسه وشخصه وأحواله كان لهذا الطب والدواء أثر عظيم في أن يكون الإنسان البشري نافعا لنفسه ولأهله ولمجتمعه ولوطنه، فإن الصوفية لا يكتفون بأن يوضحوا للناس أحكام الشرع وآدابه بمجرد الكلام النظري فقط ولكنهم بالإضافة إلى ذلك يأخذون بأيدى تلامذتهم ويسيرون بهم في مدارج الترقي بل يشملونهم بعطفهم وحنانهم وتوجيهاتهم في جميع مراحل سيرهم إلى ربهم وخالقهم ولذلك قال حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي :”الدخول مع الصوفية فرض عين إذ لا يخلو أحد من عيب إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام”. ثم إنه لا يخفى على كل ذى عقل لاذب وذهن ثاقب أن لأئمة التصوف الدور الأكبر والفضل الأعظم في غرس معاني المحبة والإحترام والتقدير والإجلال للأوطان، بل إنهم غرسوا في أبنائهم وأحبابهم وطلابهم أنه من أساس الإيمان محبة الأوطان وإعمارها. ولقد روى البخاري أن رسول الله كان إذا قدم من سفر فأبصر جدران المدينة المنورة أوضع راحلته إليها من حبه لها “أي أسرع في السير إليها. يقول الحافظ ابن حجر العسقلانى: وفي هذا الحديث دليل على مشروعية محبة الأوطان والحنين والإشتياق إليها.
اضاف: ومن الذين عبّروا عن محبتهم للأوطان بحمايتها والدفاع عنها أئمة عظماء وسادة فضلاء اذكر منهم: الإمام المحدث القدوة سيف الدين البخاري الذي وصفه ابن ايبك الصفدى في كتابه (الوافي بالوفيات) أنه كان إماما في السنة والتصوف فعندما حطّم التتار بلاد الاسلام ودمروها قام هذا الإمام الجليل بدوره في حماية وطنه وفى نشر وخدمة دين ربه فلقد أرسل الإمام البخارى تلامذته إلى (بركة خان) حفيد (جنكيزخان) ملك القبيلة الذهبية التتارية ودعوه إلى الاسلام بحق وإخلاص وصدق فأظهر على ايديهم الكرمات وخوارق العادات حتى تغلغل الاسلام في قلب (بركة خان) وقبيلته فأسلم وأسلم كل من فى القبيلة الذهبية التتارية على أيدى تلامذة الأمام الصوفى البخارزى رحمه الله.
وكان لإسلام (بركة خان) وقبيلته دور كبير وأثر عظيم في صد (هولاكو) عن بلاد الإسلام وبلاد المشرق فلقد دخل(بركة خان) عددا من المعارك أمام (هولاكو) وجيشه حتى يشغلهم عن غزو بلاد الإسلام والمشرق، وكذلك ما صنعه الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب في جهاده أمام الصليبيين وفى معركة حطين. وهو الذي اشتهر وعُرف عنه ملازمته وحبه وأخذه عن السادة الصوفية، وكان يصطحب الصوفية فى معاركه تبركا بهم ولأخذ الرأى والمشورة منهم، ويقول المقريزي فى الخطط والآثار في المجلد الثاني أن صلاح الدين الأيوبى هو أول من أنشأ خانقاة للصوفية فى مصر وأوقف عليها أوقافا كثيرةً وكان سكانها يعُرفون بالعلم والصلاح والولاية لله .
وكذلك كل من المجاهدين العظيمين سيف الدين قطز محمود بن ممدود الذى كان محباً للتصوف وكان شيخه ومرجعه في طريقه إلى الله هو الإمام العز بن عبد السلام. وأيضا الملك الظاهر بيبرس البندقدارى والذي كان شيخه ومرجعه في طريقه إلى الله الشيخ الصوفي خضر بن أبي بكر بن موسى العدوي، وهما اللذان سحقا جحافل التتار وأبادوهم إبادة كاملة حتى أن ابن عبد الظاهر رئيس ديوان السلطان الظاهر بيبرس كتب في وصف معركة عين جالوت قال: وحضر فى المعركة الزهاد والعباد والفقهاء والفقراء الصوفية .
وأذكر أيضا السلطان الصوفى القدير محمد خان الثاني بن مراد المعروف بمحمد الفاتح الذي بشر به رسول الله كما جاء في مسند الإمام أحمد أنه قال: “لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش جيشها”.
ثم إنه لا يخفى أن الذين عبّروا عن حبهم لبلادهم وأوطانهم هم الصوفية بل قاموا بنشر الإسلام والإيمان في بلاد العالم كله، فقد انتشر الإسلام في عدة دول كإندونيسيا وماليزيا وجزر القمر وتايلاند والفلبين وسنغافورة ونيجيريا وكينيا على يدي شيوخ الطريقة والشريعة والحقيقة من أئمة التصوف.