بقلم / سلوى مرجان
صباح شديد الظلمه
خطواتي تسبق بعضها على الطريق، الأمطار لا تتوقف وكأن السماء أعلنت الحرب على الأرض.
أخيرا وصلت إلى باب القصر بعد ما ابتلت كل ملابسي، طرقت الباب بقوة وكأنني أستغيث لينقذوني من هذا الكون الشاسع
فتح العم رشيد الباب وهو يضع يده على عمامته الكبيرة التي لا يفارقها أبدا ولكن هذه المرة وضع فوق عمامته كيسا كبيرا ليقيه من المطر، صاح بي وهو يفتح البوابة الكبيرة:
ادخلي يا بنيتي لم تأخرت؟
نظرت له في صمت كعادتي ولم أرد
حدثتني نفسي ساخرة
هل أخبره أن السيارة تعطلت بي أنا التي لا أملك حتى ثمن حافلة عامة لأركبها.
وطأت أقدامي الطين مسافة طويلة حتى وصلت إلى الباب، لم يكن حذائي بحالة جيدة حتى يتحمل كل هذا الوحل، شعرت بقدمي وقد ابتلت تماما من الماء وعندما فتحت لورين الصغيرة الباب أصررت على ترك الحذاء بالخارج، نظرت لي لورين الصغيرة بدهشة لكنها لم تنبس ببنت شفة.
دلفت إلى الداخل بسرعة ألتمس الدفء، كانت المدفأة الكبيرة مشتعلة وصوت طقطقة الأخشاب يؤنس المكان، علقت معطفي في الموضع المخصص قبل أن أدخل لغرفة المكتب.
جلست على الكرسي وفتحت الكتاب وبدأت أسأل لورين إن كانت أنهت واجباتها، فأعطتني الكراسة وأخذت أصحح في صمت، ثم شرحت الدرس الجديد خلال ساعة ونصف.
بعدها وقفت فسبقتني هي للخارج لتخبرهم، وعلى باب القصر مدت عمتها يدها بالظرف الذي يحوي النقود، فأومأت لها دون كلمة، وهممت بأخذ معطفي لولا أن سمعت صوت الجدة تقول:
لا يمكن أن تخرجي يا بنيتي في ذلك الطقس الرهيب.
قلت بصوت متحشرج: سأكون بخير يا سيدتي
قالت ابنتها باقتضاب:
يمكنك الجلوس قليلاً.
في حين قالت لورين موجهة الكلام للجدة:
إن معطف الأستاذة مبتل يا جدتي.
ردت الأخيرة: احضري معطفا آخر يا لورين يصلح لمعلمتك.
قفزت لورين السلمات بسرعة، بينما أشارت لي الجدة لأجلس جانب المدفأة، عشر دقائق وأنا أنظر للنيران في صمت، لم يقطعه سوى صوت العمة التي قالت:
منذ خمسة أشهر وأنت تدرسين للصغيرة والحقيقة أن مستواها تحسن كثيرا.
حركت رأسي شاكرة، فسألتني الجدة فجأة:
أين تسكنين أنسة كاميليا ؟
نظرت لها للحظات ولم أعرف بم أجيب، حتى تداركتني رحمة السماء فنطق فمي أخيرا :
ألم يخبركم السيد محمد ؟!
ابتسمت الجدة وقالت:
السيد محمد لم يخبرنا سوى أنك معلمة ملتزمة وستتحسن لورين معك كمان تحسنت ابنته معك طوال العام الماضي قبل سفرهم للخارج.
ابتسمت ووقفت بسرعة وحملت معطفي وأنا أتمتم:
أخشى أن يتأخر الوقت.
نظرت لي الجدة وهي ما زالت جالسة وكررت سؤالها:
لم تخبرينا أين تسكنين ؟
قلت بصوت مرتعش:
في وسط المدينة.
ثم تحركت بسرعة وفتحت الباب، فصفعتني الرياح الباردة وغطت خصلات شعري كل وجهي، فأزحتها بعصبية للخلف، ووضعت قدمي داخل الحذاء المهترئ وقبل أن أتحرك سمعت لورين تصيح:
المعطف يا معلمتي.
نظرت للمعطف الذي بيدها، فإذا هو من الجلد وبه غطاء للرأس، فأخذته منها وشكرتهم وأنا أخلع معطفي المبتل، فحملته لورين وقالت بسعادة:
سأنظفه لك وأعيده جديداً.
نظرت لها نظرة سريعة قبل أن أدير ظهري وأتلقى الأمطار الغزيرة، لكن هذه المرة كان المعطف وغطاء الرأس يقومان بحمايتي.
عندما وصلت للبوابة الخارجية وضعت الظرف على المنضدة أمام الأم الصغيرة ، فأشارت لي لأكمل الطريق، فدخلت البيت وكان أخواتي يأكلن، توجهت للمطبخ فأعطتني الطباخة طعامي وهي ترمقني بنظرة احتقار اعتدت عليها رغم عدم فهمي لمعناها.
جلست بجانب أختي على المائدة، فنظرت للمعطف بإعجاب شديد وسألتني:
من أين لك به؟
التهمت شطيرة اللحم الصغيرة قبل أن أجيبها:
أعطانيه أهل لورين الصغيرة ليقيني من المطر.
خرجت أمي فجأة ووقفت تنظر لنا قبل أن تهتف بي:
كاميليا، تعالي إلى غرفتي بعد الطعام.
حركت رأسي وتمتمت:
أمرك يا أمي.
أنهيت طعامي بسرعة ولحقت بها ، وقفت أمام المكتب ويدي خلف ظهري وعيني في الأرض، فسمعتها تقول:
كم تأخذين من أهل لورين الصغيرة ؟
: لا أعلم يا أمي، لم يسبق وفتحت الظرف.
: هل طالبت بزيادة ؟
: بالطبع لم أفعل لأنني لا أعلم أصلا الأجر.
: حسنا، سمعتك تقولين أنهم أعطوكي هذا المعطف.
: نعم على سبيل السلف.
: انصتي الآن، ستمرين بهم بعد يومين وتردينه لهم وتعتذري لأنك لن تكملي معهم.
شعرت بحزن غريب بعدما سمعت هذا الكلام، فازدرت لعابي وسألتها:
لماذا يا أمي؟ ألن أعمل لأحصل على الطعام ؟!
: ستعملين ولكن لدى طفل آخر.
: لن أتعب إن عملت للطفلين.
نظرت لي نظرة طويلة، وبدت كأنها تفكر، وأخيرا قالت:
ولكن لن تحصلي على طعام أكثر في المقابل.
هززت رأسي متفهمة وقلت:
أفهم يا أمي.
فأشارت لي بالانصراف.