900
900
مقالات

معطف الأمطار الدافئة

الحلقة الأخيرة

900
900

بقلم /سلوى مرجان

طرقنا الباب ووقفنا في انتظار أن يفتح أحد، كان قلبي يدق بقوة وأنا أخشى المجهول خلف الباب، وبعد ثوان فتح رجل أنيق، وقال بأدب جم:
– مرحبا سيد أسامة تفضل.
قال له أسامة:
– كيف حالك يا عم اسماعيل؟
– بخير يا سيدي، سيفرح السيد محمد عندما يعلم بقدومك
جلسنا في الصالون، ونظرت حولي إلى البيت الواسع الجميل، وتمنيت أن يكون حقا بيتي، وأن أكون ابنة هؤلاء الناس الذين يبدو عليهم الثراء، نظر لي أسامة واتسعت ابتسامته وهو يطمأنني قائلا:
– دقائق معدودة فقط.
ومرت دقيقتان ثقيلتان على الروح، وبعدها سمعت صوت رجل يأتي من الداخل وصوته يقترب وهو يقول:
– وأخيرا ابني الحبيب يظهر من جديد.
يظهر الرجل ويتقدم نحونا وعلى وجهه علامات السعادة، بمجرد أن رآني مد يده لي أولا وقال:
– مرحبا يا أنسة.
ثم أخذ أسامة بالأحضان، وكلمات الترحيب لا تتوقف من فمه، جلس أخيراً بجوار أسامة وربت على قدمه وهو ينظر لي ويسأله:
– الأنسة قريبة لك؟
– كاميليا خطيبتي.
– مبارك لكما.
وقبل أن يتفوه الرجل بكلمة أخرى بادره أسامة:
– كاميليا معها صورة لها وهي صغيرة، نريدك أن تراها.
بدت الدهشة على الرجل، وسأل:
– صورة؟! لا أفهم!
فأخرجت الصورة وأعطيتها لأسامة الذي بدوره سلمها للرجل وهو يقول:
– هذه الصورة ألتقطوها لكاميليا فور دخولها الدار، لتكون مستندا أصيلا معها.
بدا على الرجل الفزع وهو ينظر للصورة ويتأملها، قبل أن ينهض مسرعا ويختفي لدقيقة مرعبة بالنسبة لي، ويأتي بصورة أخرى وينظر للصورتين ولي، ثم يعطيهما لأسامة، فيحملق أسامة في الصورتين ويقول:
– كما توقعت، كاميليا هي فاتن.
لم ينظر الرجل لي، بل نظر في الأرض وهمس بحزن:
– الآن؟! لم الآن؟! لقد بحثنا عنها طويلاً، لقد ماتت أمها كمدا.
قال أسامة:
– عندما أراد الله.
رفع أخيرا عينيه ناحيتي وتأملني لوقت، ثم قال:
– أين كنت؟
همسات:
– في دار للأيتام.
– كيف وصلت إلى هناك؟ لقد ضعت برأس البر.
– لا أعلم كيف وصلت ولا أذكر شيئاً قبل الملجأ.
– ملجأ ؟؟؟؟ كلمة قاسية جدا، هل تعلمين من أنا يا فاتن؟
– أعتقد الآن أنك أبي.
هز رأسه بقوة وقال:
– ليس هذا ما أقصده، أقصد مركزي الاجتماعي وثروتي.
– لا، لا أعلم أي شيء.
نظر لأسامة وقال:
– أنت تعلم يا أسامة أن لدي ابنتين، الصغيرة خطوبتها بعد أسبوع من دبلوماسي، ووالده هو معالي وزير الصحة.
نظرت له ولم أفهم ما يعني، بينما هز أسامة رأسه متفهما، وأشار لي لأقف وقال:
– كاميليا لم تأت لتدمير حياتكم، كانت فقط تريد أن تعرف أن لها أهل وأنها ليست ابنة…….
اقترب الرجل مني ومسح على رأسي وقال:
– أنت ابنتي يا فاتن، ابنتي التي ضاعت منا منذ اثنين وعشرين عاما، إنه عمر يا ابنتي، سنوات طوال اعتدنا ألا تكوني معنا، وبنينا الحياة هكذا، أنت جميلة كأخوتك ولكن …..أنا لا أستطيع أن أدمر حياتهم.
هنا تحدث أسامة بعصبية شديدة وقال:
– كفى، لقد تأذت من كلماتك، هي لا تحتاج لشيء.
– افهمني يا أسامة، أنا سأعوضها وأعطيها مالا يغنيها عن…
– أرجوك قلت كفى.
ثم أمسك بيدي وجذبني بقوة وهو يأمرني:
– هيا، إنه خطأي
وقفت بعد خطوتين وطلبت منه أن ينتظر، ونظرت للرجل وقلت له:
– أنا لم أكن أتخيل أنك سترحب بي وتأخذني بين ذراعيك، ولم أكن أتوقع من الأساس أنك فعلا ستكون من أنجبتني، أنا تماماً مثل رجل مات وكان أهله يحبونه بشدة، ولكنهم وزعوا ثروته واعتادوا الحياة بدونه، سيبكونه عمرا، لكنهم لن يقبلوا برجوعه من الموت، الميراث تم توزيعه وأشياؤه القديمة ألقوا بها في سلة المهملات، أنا فقط أريد أن أشكر أسامة أنه طمأنني أنني ابنة حلال.
نظر لي الرجل ولم ينطق، فعاد أسامة يجذبني لأتحرك، وسمعت صوت الرجل من خلفنا يقول:
– أعتذر يا ابنتي، ولكنها الحياة.
قتلتني الكلمة وتمنيت لو لم ينطق من الأساس، بينما أسامة حاوطني بذراعه وهو يقول:
– أنا عائلتك يا كاميليا، وأنت كاميليا وستظلين كاميليا.
بكيت بقوة، ولم أكن أدري هل أبكي من لفظ أبي وأسرتي لي، أم أبكي من هذا الحب والحنان الذي أغدقهم أسامة علي.

ذهبنا بعد ذلك لقسم الشرطة، وقصصت على الشرطي كل شيء، وطلب مني رؤية نجاة ليستمع لأقوالها. فأخبرناه أنها مريضة، فقال أنه سيمر بها بعد أيام ريثما ينتهي من بعض التحقيقات.
وبعد أسبوع كامل، كان الشرطي يطرق الباب، دخل الصالون وجلسنا جميعاً معه ومعنا نجاة، بدأ الكلام قائلاً:
– حمدا لله على سلامتك أنسة نجاة.
شكرته نجاة، وانتظرنا أن يسألها، لكنه لم يفعل، فسألته:
– هل التحقيقات أفضت إلى شيء؟
– لا.
– لا؟! لماذا ؟
– لأن لدينا قضية أكبر، فالدار ستستلم اليوم إدارتها مديرة جديدة.
نظرت أنا ونجاة إلى بعضنا وهتفنا في وقت واحد:
– لماذا ؟
مطت شفته السفلى ثم قال بتريث:
– عندما يتعارك اللصوص تظهر السرقة، لقد قتلت مديرة الدار الأم الصغرى بمساعدة الطبيب.
صحت :
– كيف ولماذا ؟
– اختلاف في توزيع المال.
– أي مال؟
– المخدر ات، ألا تعلمين أنهم يضعون كمية هائلة من المواد المخدرة بالدار ويتاجرون فيها؟!
قالت نجاة:
– فيروز قالت لي هذا الأمر من قبل ولم أصدقها، وكانت تنوي أن تبلغ الشرطة.
قلت متفهمة:
– لهذا قتلتها.
قال الشرطي:
– ولنفس السبب تخلصت من دعاء.
قلت بغضب:
– الملعونة يجب أن تموت.
وقف الشرطي ومد يده لأسامة وهو يقول:
– سأترككم الآن لأن لدينا قضية كبيرة.
قال أسامة:
– كاميليا ونجاة يستطيعان مواجهتها أي وقت.
ابتسم الشرطي وقال:
– لا داعي، لقد انتهى الأمر، مساء أمس حقنت نفسها في الزنزانة بحقنة هواء وماتت في التو.
هوى قلبي لدى سماعي الخبر، لا أعرف لم حزنت! هل لأنها يوما ما كانت أمي، أم لبشاعة الجرائم التي ارتكبتها، أم لموتتها الرهيبة التي اختارتها، نظرت لنجاة فوجدت على وجهها علامات الارتياح، ثم احتضنتني وقالت:
– انتهى هذا الزمن، إنها حياة جديدة.
أما أسامة فحمل لورين الصغيرة ونظر لأخته وسألها:
– ما رأيك يا حاجة، متى نقيم الأفراح.
ضحكت جدة لورين وقالت وهي تبتسم لنا:
– اليوم لنصبح عائلة واحدة.
بعد أيام كان الفرح، وعادت نجاة لصحتها مرة أخرى، وارتدت ثوبا جميلا مثلها، أما أسامة فأتى لي بفستان لم أر في جماله، وحملت لورين شموع الفرح، وتمنيت للحظة لو يأتي الرجل الذي أنجبني، ولكن أسامة قرأها في عيني وقال:
– أنا عائلتك، وأختي أختك، ونجاة ولورين هما زهرات البيت، وليس لك عالم غيرنا.
وضعت قبلة على خده فأمسك بيدي ونزلنا السلالم المزينة وسط زغاريد ودعوات دافئة.

اترك تعليقك ...
900
900
زر الذهاب إلى الأعلى