قراءة في قصائد فاتحة الجعفري
مينة الحدادي – رابطة كاتبات المغرب فرع اشتوكة أيت باها
مقاربة لشعرية المكان
ذات مساء ثقافي ، و في مقابلة خاطفة بيني و بين الشاعرة فاتحة الجعفري مدتني بمجموعتها الشعرية ” شذرات على ضوء الأمل الصادر سنة 2016و” بوح الجراح “2019 ، و “نبضات قلب ” 2023 ، و حيث كانت على عجل ، لم يتسن لي الوقت لمجالستها و محاورتها ، أخذت المجموعة الشعرية و سافرت إلى فضاءاتها ، تنسمت عبيرها ، شربت من حليب نوقها ، تذوقت تمرها ، زادي كان شغفي بالحرف و الكلمة أولا ، و ثانيا رغبة التعرف على فاتحة الجعفري الشاعرة ، فرأيت في هذا السفرموضوعات متعددة ، الوطن ، المرأة ، الليل ، فلسطين ، التراث ، العشق …..إلخ .و كقارئة استوقفني المكان و بالذات درعة ، فالمجموعة الشعرية لا تكاد تخلو منه .
إيمانا مني بأن النص لا يمكن محاصرته أو حصره و حصاره و من يدعي ذلك فليتأكد أنه قتل النص ، بل وأده جهرا، و تأكيدا على أن المتلقي متعدد، و القراءة متعددة ، منفتحة ، منسابة، جاءت مقاربتي لشعرية المكان في قصائد الجعفري ، و قد تكون فاتحة المجال لقراءات أخرى .
إن المتأمل لقصائد الشاعرة سيجد أنها
عاشقة للصحراء ، تستهويها الإقامة بها ، فهي الأصل ،لا تخاف لهيب حرها و لا فيافيها ، تغنت بها و صاغت من أفضيتها شعرية أمكنة تغري بالإقامة ، فدرعة ، ذاك الوادي الطويل النابع من جبال الأطلس الكبير في اتجاه الجنوب الشرقي ، ظل مهيمنا في قصائد الشاعرة ، لقد آمنت بأن كل تجربة إبداعية تخلو من المكان ليست بتجربة ، و أن الكائن الحي يشكل حيزا في المكان ، و تجاربه الروحية و المادية لا يمكنها أن تتشكل خارج هذا الحيز ، فجاءت نصوصها بوحا و مكاشفة / بحثا و استكشافا فهي تقول في مجموعة ” بوح الجراح ”
سأبوح و أبوح
علي أن أجد غيثا يرويني
فبوحي فعلا شفاء . ص: 28
هذاالبوح تجلى عند الشاعرة في حبها لدرعة و نخيلها و عطرها و رُطبها ، تقول في نفس الديوان :
عطرك ممزوج بحلاوتك
من ثغرك العذب
تتساقطين رُطَبا
ص : 30
إن المكان حقيقة معاشة ، يؤثر في البشر بنفس القدر الذي يؤثرون فيه، إنه يؤثر و يتأثر ، حتى أنه قد يحزن إن فقد أهله أو رحلوا عنه كما هو الحال لقصائد الظعن .
فلا يوجد بهذا المعنى مكان فارغ سلبي ،فجميع الأماكن تتفاعل مع من يقطنها و درعة عند الشاعرة لما تعرضت للألم تحدّت و تمردت ، لأنها لا تقبل القيود و الأسر ، تقول الشاعرة في نفس الديوان ص : 33
ظبية درعة أنت
محررة من أسر الغزاة
سمراء تتمرد
على رقصات الشمس.
لقد حولت الشاعرة المكان درعة من الجغرافيا إلى الشعرية ، إنها تتمرد على الغزاة ، ظبية ترفض القيد ، تواقة للحرية و الانعتاق ، هذا التحول جعل من المكان ملهما لها و هذا الارتباط بالمكان ليس بالأمر الجديد ، فالمكان و الشعر لا ينفصلان ،و لعل الدارس للأدب العربي منذ العصر الجاهلي سيتعرف على الأطلال و علاقة الشاعر بالوقفة الطللية التي تشكل افتتاحية قصيدته أو معلقته و كذلك الشأن بالنسبة للشعر الأندلسي (شعر المدينة ) و شاعرة درعة لا تخرج عن هذا الإطار تقول :
هو الجنوب أكرم به
بأهله بيت الشيم
أرض القرى تدعو الجميع
لأنها مهد الكرم /ص :57
و تقول في ديوان ” شذرات على ضوء الأمل ” ص 73:
انزعي حذاءك الهش
و البسي من تدارت نعل فتنتها
لتعانقي رياح ورزازات
و تتابع في ص: 74
لبي دعوة الكرم
من أهل زاكورة
بالتمر و العسل .
تتغنى الشاعرة بكرم أهل درعة وزاكورة و تدارت وورزازات….. إنه المغرب الشرقي بأهله أصحاب الجود و الكرم ، تقول في ديوان “بوح الجراح “:
ها تمرها
ها تينها
تم الحساء و سمنها
ألبانها لحم الغنم
زيتونها وبَرُها
موائد فيها الدسم ص: 58
في إشارة منها إلى موائد الكرم و العطاء اللامحدود ، و هذه فعلا شيم أهل الصحراء .
يقول غاستون باشلارأن العمل الأدبي حين يفقد المكانية فهو يفقد خصوصيته و بالتالي أصالته ، من هنا كان اهتمام الشاعرة بالمكان و تفاصيله ، درعة / تازناخت /سجلماسة / ورزازات ….
تقول في ديوان “شذرات على ضوء الأمل ” :
وإذا علقت بأسنانك قشرة تمر
لا تسألي عن الطبيب
ففي الناقة المنظف و الحليب
ص:75
و تتابع :
و إن أحسست بالظمأ
ستسقيك درعة ماءها الزلال
و أريج الورد من صبا القلعة
سيدة الدلال
الشاعرة فاتحة الجعفري تؤمن بالمكان ، تؤمن ببساطته ، بعيدا عن تعقيدات الحياة الحضرية ، تقول :
أتحبين أن نقضي ليلة بين النخيل
لا تخافي من رقصة السيف
لا تهابي دوار رقصة أحيدوس
إن السهرتحت وقع سيوف التراث بين النخيل السامق ، لا مجال فيه للخوف و كأنها بالنخيل تحتمي و تكرار معجم الخوف بعبارتين دالتين : لا تخافي / لا تهابي يبعث على الطمأنينة و يشيع الدفء .
و في مجموعة ” نبضات قلب ” ص33:
أتيت سجلماسة عاشقة
أعبر جسور قلبي إليك
لأرتشف من رحيق مياهك
المكان عند الشاعرة ليس حشوا ، بل كل نصوصها جاءت مزينة كزنبقة ملونة ، كزهرة لوتس ، كشجرة سنديان ممتدة ، تمنح ظلالها للقارئ اتقاء حر الظهيرة ، و الشاعرة تصهر المكان في الزمان ليصير واحدا ، تقول في مجموعة ” بوح الجراح “:
أنت صباحي و مسائي
ملحمتي
صبابتي التي لا تعرف الكمون
سوف أملأ قلبي
من سحر درعة
كيما أكون
ص : 63
الكينونة و الوجود هو درعة ، إنها الصبابة التي لا تهدأ، حب قوي و آصرة لا مجال فيها للشك أو الريبة ،
تشير إلى أن درعة عشقها في عدة نصوص أخرى : درعة عشقي / لا آلام و لاشجون / درعة مهد العلوم وميلادها / أحلم بخيمة بين أحضان الرمال /زيتون هسكورة /نسيم عشق إزركي /نخوة أناتيم …/
تأخذ الشاعرة المعنى الفيزيقي للمكان و تضفي عليه شعرية و شاعرية منبعها الحب للمكان و التأصل و التجذر منه و فيه .
و ختاما، لاشك أن قصائد فاتحة الجعفري تشكل تجربة شعرية نسائية من درعة ، تجربة فنية مرتبطة بالصحراء التي كلما زاد لظاها ، زاد لهيب الإبداع لدى الشاعرة .
إن تجربة الشاعرة تحفل بالموروث بالمغرب الشرقي ، نابضة بأحلام المرأة الرافضة للتقاليد و العادات الموبوءة ، عابرة بأبجديتها حدود الزمان و المكان .