900
900
مقالات

ناريمان حسن تكتب : إضطرابات المساء

900
900

أربع ساعات وأنا جالسة لا أفعل فيها شيئاً سوى النظر إلى الأشياء دون أن ألاحظها أو أحفظ تراكيبها وهندستها، أداعب قطي بين الفينة والأخرى ففي الآونة الأخيرة، أصبح أكثر قدرة على الحركة ويسبب الكثير من الضوضاء في المنزل ولكنه لا يزال يرغب في لحظات من الاستسلام التام بين يدي. أفعل ذلك بامتنان شديد وأنا أواصل فعل النظر، إلى أعماقي، أعماق العالم، الوجوه الأخرى المختبئة خلف الحقيقية. كنت دائماً هكذا، إلى حد أن أفتح جرحاً عميقاً بداخلي بالمشرط وأتركه ينزف، لذا كنت دائماً ممتلئة بالندوب الظاهرة. والمتخفية منها، هذا التخفي كان سيثير رعباً حقيقياً لو أن الغطاء الشفاف أمام الأعين يقام. أتذكر جدي الذي كان يقول: “إن هذه الطبقة الشفافة تحجب الجان كي لا نصاب بالجنون” أرغب كثيراً أن أخبره أنها تحجب الندب غير القابلة للمحو، ما هو الشيء الأكثر رعباً منا حين تتعرى مكنوناتنا وتظهر على حقيقتها؟

يقاطعني والدي مبتسماً: “تفكرين دائماً بالأشياء غير المعقولة”، وكأنه يسمع الحوار الذي يدور في رأسي. “أرجو أن لا يعيقك أي سجن آخر عدا جسدك”. إنه لطيف جداً حتى أن صديقتي تحسدني عليه. غير معقول، هذا الرجل خارج من الأفلام هل يمكن أن يكون المرء بكل هذا الكمال؟ بدا لي هكذا دوماً يقول أشياء غير مفهومة حتى تبدو مفهومة أكثر من المفهوم نفسه. أمقته أحياناً لأنه أورثني خوفه والقلق. ولأنه قلع عينا لعبتي عندما ألقاها أرضاً للتنفيس عن غضبه، لعدم رغبتي بالعودة معه إلى البيت عندما كنت صغيرة. لقد سلبني حق الاحتفاظ بأكثر لعبة أحببتها. أبتاع لي غيرها الكثير بعد ذلك لكنها لم تنسِني الأولى. أذكر أنه ذات مرة مدَّ خنصره إلي لأتمسك بها، هذا هو الأصبع الوحيد الذي يناسب حجم يدي والذي لليوم أرفض التمسك بغيره عندما نكون معاً. مضينا سوياً إلى متجر الألعاب الصغير قررت يومها أن أغفر له بابتياع غيرها لي والاحتفاظ بها إلى الأبد، لكن هذا الأبد لم يدم أيضاً سلبتها هي الأخرى أثر شظية في المنزل أحالت كل شيء إلى رماد.

أواصل النظر دون إيهام نفسي بشيء مطلقاً. يطل جارنا خلف النافذة كعادته يرغب في القيام بعادته الدائمة بمراقبة الأوضاع في الخارج قبل أن يغط في المنام إنه مريض بالقلق يتهيأ له دائماً أن ثمة لصوصاً يتجولون بيننا وأن مجموعة مجهولة سترتكب جرائم متعمدة بينما الجميع نائمون. حدث مرة أن أتى أناس جدد إلى البناية المقابلة دون أن يعلم بالأمر. لاحظ فقط رجلاً ينزل ويضع نبتة مغلفة أمام البناية ويذهب مسرعاً. تهيَّأ له أنه يضع مواداً متفجرة لهدم المبنى فسارع لإبلاغ الشرطة ليأخذو الحيطة والحذر من الأمر. والطريف عندما أتَوا وأدركوا الأمر تم نقله إلى القسم لقضاء ليلة في السجن لعدم العبث مع الحكومة ويأخذ من وقتها مرة أخرى. مضى وقت طويل منذ أن لمحنا فيه غريباً يتجول بيننا ولكنه لا يزال يمارس طقوسه الليلية في المراقبة. يعود متثائباً بعد دقائق إلى غرفته ويترك النوافذ مفتوحة على الاحتمالات… ستواصل تلك الأفكار الدوار في رأسي حتى الصباح هذا الأخرق اللعين الذي يفتعل فعل القلق لأجل القلق فحسب، الحب لأجل الحب، الهجران لأجل الهجران، الحزن لأجل الحزن… وهكذا إلى أجل غير مسمى.

اترك تعليقك ...
900
900
زر الذهاب إلى الأعلى