900
900
مقالات

سلوى مرجان تكتب : ” الصغير “

900
900


منذ أن خرج من بين أحشائي أدركت أنه مختلف، مصمصت النسوة شفاههن عندما رأينه، أما الرجال فكان قولهم( لا تنفقي عليه كثيرا، له سن معين سيموت فيه، هذا أمر معروف عن هؤلاء)، أما زوجي فجلس حزينا لوقت، وبعد أشهر قليلة طلب مني أن ننجب طفلا آخر ، وعندما أخبرته أن ابننا هذا يحتاج إلى رعاية كبيرة وهذا ليس الوقت المناسب للإنجاب أخبرني أنه لن ينفق قرشاً على طفل معاق نهايته الموت.

وهكذا صار صغيري منبوذا منذ أول لحظة في عمره، وما علي سوى أن أواجه المجتمع كله بابن معاق، أو كما يطلقون عليه من (ذوي الهمم).

عندما صار ابني في العاشرة من عمره كان لديه ثلاثة أخوة آخرين، كانوا بالكاد يكلمونه، أما هو فكان يحبهم حبا كبيرا ويقترب دائما منهم ويمسح على رؤوسهم وعلى أيديهم، أما زوجي فكأنه لا يعرفه، لم ينفق عليه طوال العشر سنوات الماضية قرشاً واحداً، كان كل راتبي من أجل رعاية هذا الصغير الذي أسميته (رفيق)، حاولت تعليمه السباحة لكنه لم يكن ماهرا فيها، كان يحب الطعام ويأكل بشراهة وهذا ما جعله سمينا للغاية، وأثر على قلبه وصحته، فكنا نذهب إلى الطبيب مرة كل أسبوع بشكل منتظم، وكثيرا ما تأفف زوجي من هذا الأمر وكان يصرخ بي:
– كل هذا المال الذي تنفقينه حرام.
– هل أتركه يموت؟!
– سيموت عاجلاً أم آجلا.
– كلنا سنموت.
– أنت قلتيها، فلننفق إذا على الأصحاء.
– لن أترك ابني يموت.
– ولن أتتركك بعد اليوم تنفقين أموالك على هذا المتخلف.
– هي أموالي كما قلت.
– ولكن وقت العمل هذا مستقطع من وقت المنزل ووقت زوجك وأبنائك.
– وهذا أيضا ابني.

– لن أسمع هذا الهراء مره أخرى، راتبك يصلني أول كل شهر ولن أسمح لك بالانفاق مره أخرى على هذا الطفل.
وبدأت أستقطع من راتبي وأتركه مع صديقتي كل شهر كي أقسم لزوجي أن هذا كل الراتب كي أستطيع معالجة ابني دون أن يشعر.
ومرت السنوات…. الأبناء جميعهم يكبرون وصغيري يصغر، كلهم يبدأون في تحمل المسؤولية أما هو فبدأ جسمه يضمر، بدا ضعيفا وهزيلا رغم أنني لم أقصر معه يوما ورغم محاربتي لزوجي طوال السنوات العشرين الماضية.

تعلم في السنوات الاخيرة أن يلعب الشطرنج معي وكان يغلبني، يغلبني بكل سهولة وكأنه خلق لاعبا للشطرنج، إلى درجة أن زوجي ذات مرة اتهمني أنني أخسر أمامه لكي أرضيه، فأقسمت أن هذا لا يحدث فقرر أن يجرب بنفسه ويلعب معه دورا وعندما خسر أمامه لم يكن يصدق نفسه وأعاد الكرة مره تلو الأخرى، حتى أدمن على الأمر وبدأ يبحث في الانترنت ليفهم كيف لهذا الصغير المعاق أن يكون لديه تلك القدرة على لعب الشطرنج الذي لا يلعبه ولا يفوز به سوى الأذكياء، بدا بعد كل تلك السنوات يجلس الى رفيق ويضحك معه ويلعب معه. هو نفسه لم يكن يصدق كيف تبدل حاله كيف أصبح ينتظر عودته إلى المنزل وتناول الغداء لكي يشرب الشاي بصحبة رفيق أثناء لعبهما الشطرنج. ذات يوم عندما اصيب رفيق بالنزله برد حاده تطلبت حجزه بالمشفى لأول مره يخرج زوجي من جيبه النقود من أجل رفيق كان يبكي وهو يتوسل إلى الطبيب بأن يفعل كل ما بوسعه كي ينقذه، وكنت أطمئنه بأن هذا دور برد عادي وسوف ينجو منه كما نجى مما هو أصعب، لكنه لم يكن مطمئنا .

وعندما خرج رفيق من المشفى كان مازال مريضا، كان زوجي يأتي بالشطرنج حتى سريره ويجلس معه طوال الليل محاولا أن يخفف عنه الألم ويطلب منه أن يحاول اللعب لكي يعود كما كان سابقا لكن رفيق كان مستسلما تماماً،لأول مره أرى رفيق بهذا الاستسلام وأول مرة أرى زوجي بهذا الحنان معه.

بعد عدة أيام وبينما زوجي كان عائدا من عمله دخل مباشرة إلى حجرة رفيق وبدأ يتحدث إليه ويطلب منه أن يسامحه لكن رفيق كان ينظر له وهو لا يفهم كلمة مما يقول لكنه كان يمسح على رأس أبيه ويبتسم ابتسامة واهنة، وقبل آذان الفجر سمعنا رفيق يصرخ بأعلى صوته، كان يتألم بشدة من بطنه، فارتديت ملابسي وزوجي وركبنا السيارة مسرعين إلى المشفى بمجرد وصولنا فتح زوجي الباب ليمسك بيد رفيق لكنه وجد يده باردة كالثلج، وكانت ابتسامة واسعة على شفاه رفيق وهو مسبل الجفنين.
في جنازته كنت شاردة أفكر في الجنة التي سافر إليها ابني، أما زوجي فهمس بحزن والدموع تتقاطر من عينيه في المساء:
– الآن بدأ جحيمي. ليتني عرفته منذ البداية.

الصورة للصديق منذر من ذوي الهمم الذي طلب مني الكتابة عنهم ووضع صورته.
Monizer Gaber

اترك تعليقك ...
900
900
زر الذهاب إلى الأعلى