د. منير القادري بودشيش: الطرق الصوفية مدارس متنوعة لـ”مشكاة واحدة”
التصوف يخدم الإنسان والأوطان.. ولا يعرف الإرهاب والخوان. المولد النبوى يوم عيدنا.. لتجديد العهد مع الله ورسوله. الإسلام رسالة إنسانية.. تحقِّق الخيرية العالمية. الصوفى "ابن وقته".. منخرط فى مجتمعه لا منعزل. الأخلاق عنوان صلاح الأمم.. وفقدانها يصيب الأمن الروحى بالخَلَل. ليس كل من ادّعى "المشيخة" صار مُرَبِّيًّا.. ولو تَزَيَّن بـ"زِىِّ العارفين"
حاوره فى المغرب: مصطفى ياسين
أكد د. منير القادري بودشيش، رئيس مؤسسة الملتقى، مدير المركز الأورومتوسطي لدراسة الإسلام اليوم، نائب الطريقة القادرية البودشيشة، أن الطرق الصوفية مدارس متنوعة لـ”مشكاة واحدة”، فجميعها من رسول الله ملتمس، وإن اختلفت مشاربها وأنواعها، موضحاً أن التصوف عامة يخدم مصالح الإنسان والأوطان، ولا يعرف الإرهاب والخوان، مشيراً إلى أن الصوفى برئ من التطرف والتعصب ولا يمكن أن يكون إرهابياً أو متطرفا فى جماعة تكفيرية.
أشار إلى أن صوفية مصر والمغرب تربطهم كثير من الصلات، فأغلب صوفية وأولياء الله في مصر وفدوا من المغرب سواء في طريقهم لأداء مناسك الحج والعمرة أو قاصدين العلم والمعرفة والأزهر الشريف.
وقال: الاحتفال بالمولد النبوى الشريف، بأنه يوم عيد بالنسبة لنا لتجديد العهد مع الله ورسوله، مؤكِّداً أن الصوفىّ “ابن وقته” ينخرط فى مجتمعه وليس منعزلا عنه، وليس كل من ادّعى “المشيخة” صار مُرَبِّيًّا، ولو تَزَيَّن بـ”زِىِّ العارِفين”.
أوضح أن الإسلام رسالة إنسانية تحقّق الخيرية العالمية، وأن الأخلاق عنوان صلاح الأُمم، وفُقدانها يُصيب الأمن الروحى بالخَلَلِ.
أضاف: يأتي للزاوية البودشيشية بـ”مداغ” المحبّون والعاشقون والمُتيَّمون برسول الله، وتقوم الزاوية بعمل كافّة الترتيبات لاستقبالهم، ففي هذا اليوم يجتمع شيخ الزاوية مولاى د. جمال الدين القادري مع مريديه وأحبابه من كلّ أنحاء العالم، تحت الرعاية السامية لسمو الملك محمد السادس- حفظه الله ونصره- لنرفع أكُفَّ الضراعة إلي المولي سبحانه وتعالي، ليغفر لنا ويرحمنا ويجعلنا في معيَّته ورعايته.
وفيما يلي نص الحوار الذى أُجرى معه، على هامش ملتقى التصوّف العالمى فى نسخته الـ19، والذى عُقد مؤخّراً بمقرّ الزاوية البودشيشة بمنطقة مداغ، بركان، وجدة بالجهة الشرقية المغربية.
الذكاء الاصطناعي
* نظَّمت الطريقة القادرية البودشيشية ومؤسسة الملتقى بشراكة مع المركز الأورومتوسطي لدراسة الإسلام اليوم الملتقى العالمي للتصوف في دورته التاسعة عشرة، حول موضوع: “التصوف ومآل القيم في زمن الذكاء الاصطناعي”، فما أسباب اختيار هذا الموضوع؟
** لقد أصبح الذكاء الاصطناعي يطرح إشكالات وتحديات كثيرة، وذلك باعتباره نظاما آليٍّا يطوِّر نموذجا للغة الصورية يقوم على خوارزميات تُحلِّل وتُعالج البيانات المختلفة بشكل مُبْهر وبسرعة فائقة من أجل تلبية رغبات المستعمِلِين وإمكانية توجيههم والتحكُّم فيهم (مشكل الحياد وعدم التحيّز).
فالإشكال الجوهري يتعلّق بكيفية المحافظة على هُويتنا الثقافية والدينية والإنسانية في ضوء استعمال تقنيّات الذكاء الاصطناعي وتأثيرها القوي على حياة الإنسان اليوم، هل برفضها أم بتقنينها أم باقتراح مواثيق أخلاقية لها؟
ولعل التحدي الكبير لهذا الذكاء هو التحدّي الأخلاقي، إذ أصبح يفرض علينا هُوية وقِيَمًا جديدة على حساب هُويتنا وقيمنا بل حتى على القيم الإنسانية بشكل عام كتحدي ما بعد الإنسانية والانبهار بالآلة والخلود وغير ذلك.
وقد ركَّزت مداخلات المشاركين في الملتقى على تناول هذه الإشكالات والتحديات من خلال زوايا للنظر متكاملة أكّدت على منافع هذا الذكاء في تحسين مستوى العيش وحلِّ مشاكل في مجالات الصحّة والتعليم والاقتصاد والثقافة والتنميّة بشكل عام، لكن مع اليقظة لتحييد الاتجاهات السلبيّة المناقِضة للقيم الإنسانيّة والمساهمة في بلورة أنظمة للذكاء تكون أخلاقية وموثوقة ودقيقة ومنسجمة مع هُويتنا وقيمنا.
وقد تمّت مطارحة هذه الرؤية من خلال عروض نخبة من العلماء والأكاديميين والخبراء والباحثين المشاركين في هذه الفعاليات التي توزَّعت أشغالها على أربعة عشرة جلسة تمكّن من خلالها المشاركون من التأكيد على أهمية التصوّف باعتباره مقام الإحسان في الدين وظيفته في تزكية النفوس وما يزخر به من إسهامات غنية لرجالاته الذين بلوروا فِهما راقيًا لرسالة الدين باعتباره رحمة للناس أجمعين، فجمعوا بين البُعد التعبُّدي والتزكوي وبين إنتاج قيم نبيلة شاركوا بها المجتمع همومه وعملوا على نفعه ونفع الإنسان من خلال قيم الجود والعطاء والتضامن. وغيرها من القيم النبيلة. وبذلك فقد شكَّلوا مرجعية روحية متينة لها أن تُمكِّن من تحصين الشباب من الوقوع في مخاطر ما يتهدّد هُويته وقيَمه.
كما أبرز المتدخِّلون أن مغرب القيم شاهد على الإشعاع الروحي على الصعيد الوطني والدولي، وتمسّكه الوثيق بقيمه الوطنية والدولية، لذا فكلّ الزوايا والمؤسّسات ومراكز البحث مدعوة لإبراز هذا الإشعاع ومعالِم ترشيد التديّن من خلال مسلك التصوّف حتى تُجابه كل التحديات. فهذه الهيئات مدعوّة للمساهمة في تحسين أداء الذكاء الاصطناعي من خلال اقتراح مضامين وبيانات، تظهر قيمنا بدل الاكتفاء بأن تكون مستهلِكة فقط لما يروج.
توصيات الملتقى
*هل لك أن تُطلعنا على أبرز وأهمّ توصيات ذلك الملتقى؟
** توصَّل المشاركون فى الملتقى لمجموعة من التوصيّات الهامّة نذكر منها: أولا: التشجيع على الانفتاح الإيجابي على تطبيقات الذكاء الاصطناعي لما يُتيحه من إمكانيات هائلة في شتّى الميادين العلمية والمعرفية والمهنية.
ثانيا: ضرورة خلْق مرجعية معرفية وقِيمية للوعي بالذكاء الاصطناعي في البرامج التعليمية والتحسيس بفوائده ومخاطره، حتى نستثمره في صناعة نهضة تنموية رائدة تضمن التقدّم لأُمَّتنا بين الأُمم.
ثالثا: التعاون والتشارك في اقتراح ميثاق أخلاقي يكون دليلاً ومُرشداً لمُطوِّري هذه التقنيّات وعوناً لهم على التجاوب مع مقتضيات الأخلاق ومتطلّبات الإبداع والابتكار.
رابعا: وضع معايير وضوابط قانونية وأخلاقية تضمن منع وقوع الضرر على الأفراد والمجتمعات من قِبل الشركات المطوِّرة لتطبيقات الذكاء الاصطناعي.
خامسا: تكثيف الجهود والتنسيق بين سائر الفاعلين والمؤسّسات من أجل تنمية أخلاقيات وقيم مشتركة تتعلّق بتجاوز أهم التحديات التي يفرضها العالم الجديد للذكاء الاصطناعي.
سادسا: دعوة المعنيين، من علماء ومُدراء الشركات والمسؤولين الحكوميين وغيرهم، إلى التعاون في توسيع دائرة الاستفادة والاستنفاع بهذه التقنيات والتقليل من مخاطرها.
سابعا: ضرورة خلْق برامج تكوينية لفائدة المشتغلين بالحقل الديني في مجال الذكاء الاصطناعي من أجل معرفة تطبيقاته وكيفية التعامل معها، والمساهمة بمضامين دينية وشرعية يُغنُون بها مضمون قواعد البيانات التي يستثمرها الذكاء الاصطناعي.
ثامنا: تنبيه أصحاب الضمائر الحيَّة إلى وجوب مقاومة نَزَعَات الشَطَطِ التكنولوجي، الذي يتأتّى من كون تقنية الذكاء الاصطناعي لا تفكّر ولا تعرف مانعا ولا كابحا.
تاسعا: استثمار تطبيقات الذكاء الاصطناعي لتعزيز أواصر التواصل بين الطُرُق الصوفية الأصيلة وخلق فرص للتعاون ومدّ الجسور فيما بينها لمجابهة التحديات التي تُطرح على التصوّف والقيم الأخلاقية التي ضحَّى شيوخ التربية في غرسها وترسيخها في المجتمع.
“إعلان مَدَاغ”
*هل من نتائج أخرى، توصّل إليها المُلتقى؟
** صدر عن المُلتقى ما نسمّيه “إعلان مَدَاغ” وجاء فيه: ارتباطا بما يشهده العالم اليوم، من تطوّر هائل في مجال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، التي أصبحت تؤثِّر بشكل متزايد على مختلف جوانب الحياة الإنسانية؛ وتفاعلا مع ما فتحته هذه التكنولوجيا من أبواب واسعة لتغيير نمط التصرُّف البشري، وعلاقته بالعالم الرقمي؛ واعتبارا للفرص الكبيرة للذكاء الاصطناعي، تبرز تحديات جديدة تتعلّق بالمسؤولية الأخلاقية، والإنسانية في استخدام هذه التكنولوجيا؛ وأخذا بعين الاعتبار، تطوّر الذكاء الاصطناعي الذي جعله ليس مجرّد أداة تقنية، بل مجالا يطرح أسئلة عميقة حول القيم التي يجب أن نلتزم بها في تطويره واستخدامه؛ وفي ظلّ التحوّل الكبير، نجد أنفسنا أمام مسؤولية كبيرة تتطلّب منّا الوقوف مع الذّات والتفكير في كيفية الاستفادة من هذه الأدوات بطُرُق تُسهم في تحقيق الخير للإنسانية، مع تجنُّب الإضرار بها أو استغلالها لأغراض غير مشروعة.
واستنادًا إلى تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف، الذي يدعو إلى الإحسان والتزكية؛ وتماشيا مع المشتركات القيمية العالمية؛ واعتبارا لمسؤوليتنا تجاه أنفسنا، وتجاه مجتمعاتنا، وتجاه الأجيال القادمة، التي تفرض علينا التحلّي بالمسؤولية الكاملة في التعامل مع هذه التكنولوجيا؛ واستشعارا لتحديات الذكاء الاصطناعي، الذي بقَدْر ما يمكن أن يكون قوّة عظيمة للخير والازدهار، يشكِّل خطورة على وجود النوع البَشَرِي، في حال استخدامه خارج دائرة القيم الأخلاقية الراسخة، التي تحمي إنسانية الإنسان، وانطلاقًا من روح التعاون التي يدعونا إليها ديننا الحنيف؛ وفي ضوء تشريف الله تعالى للإنسان بالعلم والعقل والمعرفة، مصداقا لقوله تعالى: “وعلَّم الإنسان ما لم يعلم”، وأن المعرفة فعل القلب، كما قال النبي، مصداقا لقوله تعالى: “ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم”.
وبناءً على المبادئ المستمَدَة من مقاصد الشريعة الإسلامية السمحة التي تدعو إلى حفظ الكلّيّات الخمس والحرص على الخير العام، أعلنّا عن ضرورة وضع أسس أخلاقية تحكم تطوير واستخدام الذكاء الاصطناعي بما يحقّق رفعة الإنسان وخدمة المجتمع في إطار من المسؤولية والوعي، ونقر ما يلي:
1. القيم الأخلاقية وازع لمخاطر الذكاء الاصطناعي وانحرافته “إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق”، فإن كل تكنولوجيا تُطوَّر يجب أن يكون وازعها القيم الأخلاقية، فلا يجوز بأي حال من الأحوال استخدام الذكاء الاصطناعي للتعدّي على حقوق الإنسان أو الإساءة إليه بأي صورة من الصور.
2. الحياد والإنصاف: إننا ملتزمون بتطوير واستخدام الذكاء الاصطناعي بطريقة تضمن الحياد والإنصاف بين جميع الأفراد، دون أي تمييز بناءً على الجنس، العِرْق، الدين، أو الوضع الاجتماعي، وندعو مطوّري أنظمة الذكاء الاصطناعي إلى استحضار مبادئ الإنصاف والمشترك الإنساني.
3. الشفافية والمساءلة: إن استخدام الذكاء الاصطناعي يتطلّب شفافية تامّة في كيفية اتخاذ القرارات، ووضع آليات مؤسّساتية وبنيات قانونية للمساءلة عن أي أخطاء أو انتهاكات تحدث نتيجة سوء استخدام الذكاء الاصطناعي.
4. حماية الخصوصية: “ولا تجسَّسوا” (الحجرات: 12). يجب أن تلتزم أنظمة الذكاء الاصطناعي بحفظ خصوصية الأفراد وحماية بياناتهم من أي انتهاك أو إساءة استخدام، فلا يجوز جمع البيانات أو استخدامها إلا بما يحقّق المصلحة العامة ويحافظ على حقوق الأفراد.
5. التزكية والتطوير الأخلاقي: “قد أفلح من زكَّاها” (الشمس: 9). إن تطوير الذكاء الاصطناعي يجب أن يتم بروح التزكية، لجعل التكنولوجيا وسيلة لتحقيق الخير والإصلاح، وتجنُّب إلحاق الضرر بالمجتمع أو البيئة.
6. الاستدامة وحفظ الأمانة: “إن الله يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها” (سورة النساء: 57)، استحضار البُعد الائتماني الاستخلافي في استخدام الذكاء الاصطناعي، بطُرُق تحافظ على بقاء النوع البشري، والموارد الطبيعية وتساهم في الحفاظ على البيئة، بما يحقّق مبدأ الاستدامة للأجيال القادمة.
7. التعاون من أجل الخير العام: “وتعاونوا على البرّ والتقوى” (المائدة: 2). يجب أن يكون الهدف الأسمى للذكاء الاصطناعي هو خدمة الإنسان، وتحقيق التقدُّم العلمي بما يساهم في تعزيز رفاهية المجتمعات، ويعزِّز من القيم الإنسانية العُليا، وبما يحفظ إنسانية الإنسان.
ونعاهد الله ونعاهد أنفسنا على الالتزام بهذه المبادئ الأخلاقية المستمَدَة من شريعتنا الغرَّاء والقيم العالمية، ساعين بذلك إلى استخدام الذكاء الاصطناعي في خدمة الخير العام، آخذين بعين الاعتبار مسؤوليتنا أمام الله وأمام البشريّة جمعاء.
القيم والمواطنة
• ما هو الرابط بين القيم الأخلاقية والدينية والمواطنة الشاملة؟
** إن القيم الأخلاقية ﻫﻲ اﻟتي ﺗﻮﺟّﻪ ﺳﻠﻮﻛﻴﺎت اﻷﻓﺮاد إﱃ ﻣﺎ ﻳﺘﻨﺎﺳﺐ ﻣﻊ ﻣﺎ ﺗﻄﻠﺒﻪ اﳉﻤﺎﻋﺔ وﻣﺎ ﺗﺮﻓﻀﻪ ﻣﻦ أﺣﻜﺎم ﺗﺘﻤﺎﻫَﻰ ﻣﻊ اﻟﻀﻮاﺑﻂ اﻟﺸﺮﻋﻴﺔ واﻟﻌﺮﻓﻴﺔ واﻟﻘﺎﻧﻮﻧﻴﺔ، وأنه لا وﻃﻨﻴﺔ ﻋﻠﻰ اﳊﻘﻴﻘﺔ إﻻ بهذه اﻟﻘﻴﻢ، ﻓﺎلهُوية اﻟﻮﻃﻨﻴﺔ ﻻ ﺗﻜﺘﻤﻞ إﻻ ﻣﻦ ﺧﻼل الهُوية اﻟﻘﻴﻤﻴﺔ والأخلاقية، ﻷن اﻟﻮﻃﻨﻴﺔ اﳊﻘّﺔ ﻻ ﺗﺘﺄﺳّﺲ ﻋﻠﻰ ﳎﺮد اﻻﻟﺘﺰام اﻟﻘﺎﻧﻮﱐ فقط، ﺑﻞ ﻻﺑﺪ أن ﺗﺴﺘﻨﺪ وتُعضَّد بالمكوّن اﻟﻘﻴﻤﻲ.
إننا باﻟﻘﻴﻢ ﻧﺮﺗﻘﻲ ﺑﻌﻼﻗﺎتنا ﻣﻦ اﻟﺼﻔﺔ اﻟﻘﺎﻧﻮﻧﻴﺔ اﳉﻮﻓﺎء التي ﺗﻌﺘﻤﺪ ﻋﻠﻰ محدّدي اﳊﻖ والواجب، إﱃ أﻓﻖ أﻛﺜﺮ اﻧﻔﺘﺎﺣﺎ، واﻧﺴﺠﺎﻣﺎ ﻣﻊ ﻫُﻮﻳﺘﻨﺎ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ، وﺑﺬﻟﻚ ﻧﻨﻔﺘﺢ ﲟﻮاﻃَﻨﺘﻨﺎ ﻋﻠﻰ ﻗﻴﻢ اﻟﺘﺂﺧﻲ والتسامح واﻟﺘﺴﺎﻛﻦ واﶈﺒﺔ، ﻓﺘﺼﲑ ﻣﻮاﻃﻨﺔ أﻛﺜﺮ ﻓﺎﻋﻠﻴﺔ وإﻧﺘﺎﺟﻴﺔ.
فنحن لا نفعل كالحضارة المعاصرة من حيث تهميشها للجوانب الروحیة والقیمیة للإنسان، مما أدّى إلى دخول مجتمعاتها في أنفاق مظلِمة، رغم التقدّم الحاصل ماديا وتقنيًّا، وتجلّى ذلك في الأزمات الأخلاقية والنفسیة الخانقة التي یتخبّط فیها إنسان اليوم، والفراغ الروحي المهول الذي یعانیه، ومظاهر الانحراف السلوكي، بالإضافة إلى الاستنزاف المتزاید للثروات، وما رافقه من اختلال خطیر في النظام البیئي العالمي، وغیر ذلك من الجوانب السلبية لهذه التنمیة المادية الصِرْفَة.
إن الإسلام يتميّز بنزعته الإنسانية العالمية المنفتحة التي لا فرق فيها بين مسلم وآخر، وأنها تمثّل حقيقة جوهرية في الممارسة الصوفية ومنهجها التربوي والسلوكي المبني على خطاب الرحمة والمحبّة ونفع الخَلْق، فهذه النزعة الإنسانية مستنبَطة من التصوّر القرآني للحقيقة الإنسانية.
وبكلّ تأكيد فإن اﳌﻐﺮب استطاع أن ﻳﻘﺪّم ﳕﻮذﺟﺎ ﻋﻤﻠﻴﺎ ﻟﻠﻘﻴﻢ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ واﻟﻮﻃﻨﻴﺔ ﲢﺖ راﻳﺔ ﻫﺬا اﻟﻮﻃﻦ.
تميُّز وتنوُّع
• تتميز فعاليات ملتقى البودشيشة بالتنوّع الفكرى والخدمى المجتمعى، فبِم تُفسِّر هذا؟
** كما نؤكّد دائما وأبدا بأن الصوفى ليس منعزلا عن مجتمعه وإنما هو جزء لا يتجزَّأ، ينخرط فى المجتمع تأثيرا وتأثُّرا، وبالتالي فنحن نحرص على تنوّع أنشطتنا وخدماتنا بما يخدم المجتمع، الأنشطة الموازية التي عرفتها هذه الدورة بما في ذلك الملتقى الوطني للقرآن الكريم، وما عرفه من مسابقات في حفظ وتجويد القرآن الكريم، والمسابقة العلمية والشعرية. بالإضافة إلى منتدى شباب الطريقة القادرية البودشيشية الذي تمحوَر حول موضوع “التصوّف ودبلوماسية التضامن: المنجز والمأمول”، ومعرض الكتاب الذي تضمّن منشورات مؤسّسة الملتقى بما فيها المنشورات الجديدة لهذه السنة، بالإضافة إلى ما تخلَّل هذا المحفل من وصلات ماتعة ومتنوّعة من السماع والمديح.
وتُعدُّ القرية التضامنية فضاء للقاء والتواصل بين جُلِّ الفاعلين في مجال الاقتصاد الإجتماعي على صعيد الجهة الشرقية للمملكة، من أجل مناقشة مشاكل وتحديات القطاع، وأيضا مناسبة لمواكبة وتكوين التعاونيات والجمعيات المحلّية بتأطير من خبراء مغاربة وأجانب من أجل مساعدتهم على تطوير أنشطتهم. كما تشكّل القرية التضامنية فرصة لهم لتسويق منتجاتهم من خلال وضع فضاءات تجارية رهن إشارتهم.
بالسلم لا بالحرب
• بم تردّ على دعاة الفتنة والفُرقة بين الشعوب والدول، حال وقوع بعض الأزمات أو الخلافات؟
** أكّد ديننا الحنيف على أهمية الحوار وحُسن الجوار، لتجاوز الأزمات، إن الإسلام مبني على الحوار ومجادلة الناس بالتي هي أحسن، وهو ما يفسِّر انتشاره في عهود السلم والسلام لا في عهود الفتن.
والتصوّف الذي هو مقام الإحسان يمتاز بنزعة إنسانية عالمية منفتحة يعمّ خيرها الجميع، إن التصوّف بفضل أصالة منهجه يملك عناصر القوّة للإسهام بفعالية في تقريب وجهات النظر واحتواء الأزمات واقتراح بدائل للصراعات تقوم على الأُلفة والحوار وحُسن الجوار والتعاون، وأنه على مرّ تاريخه العريق ظلّ مرتبطا بالواقع متعايشا مع هموم الآخر متفاعلا مع آلامه وآماله ومقدِّما الخير للجميع.
ونذكر هنا بالمقاربة التشاركية لجلالة الملك محمد السادس، نصره الله وأيده، في إطار التعامل بمبدأ رابح- رابح/ جنوب– جنوب، التي تهدف الى خدمة الإنسان الإفريقي، وقد ذكر فى الخطاب الملكي السامي المؤثّر الذي ألقاه جلالته في 30 يناير 2017 في قمّة أديس أبابا “..إفريقيا قارتي وهي أيضا بيتي..” وقوله أيضا “..إن منظورنا للتعاون جنوب-جنوب واضح وثابت فبلدي يتقاسم ما لديه، دون مباهاة أو تفاخر..” وكذلك قوله “..لقد اختار المغرب سبيل التضامن والسلم والوحدة، وإننا نؤكد التزامنا من أجل تحقيق التنمية والرخاء للمواطن الإفريقي..”.
إنَّ عالمنا المعاصر في أمسِّ الحاجة إلى التسامح الفعّال والتعايش الإيجابي بين جميع فئات البشر على اختلاف أديانهم وأجناسهم، وضرورة ترسيخ مفاهيم التسامح الدينيِ، وتطبيق مبادئ التعايش لخدمة الإنسانيَّة والنهوض بها إلى مَراقي التقدّم، فالبشرية اليوم أنهكتها الحروب والصراعات.
وانطلاقا من أن الإسلام دين عالميٌّ فهو يتّجه برسالته وتعاليمه ومبادئه إلى البشرية كلّها، تلك الرسالة الجليلة والتعاليم السمحة التي تأمر بالعدل والسماحة، وتنهى عن الظلم والعنف وتُرسي دعائم السلام في الأرض، وتدعو إلى التعايش الإيجابي بين البشر جميعاً في جوٍّ من الإخاء الإنسانيّ والتسامح بين كل الناس.
وتطبيقا للمبدأ الاسلامى فإن المملكة المغربية تمثّل نموذجا للتعايش والتسامح طوال تاريخها، والفضل في ذلك يرجع الى الثوابت الوطنية والدينية للمغرب، المتمثّلة في العقيدة الأشعرية والمذهب المالكي والتصوّف السُنِّي وإمارة المؤمنين الضامنة لهذه الثوابت ولاستمراريتها.
بجانب أهمية نشر قيم التسامح والمحبّة والتعارف والتساكن بين مختلف الثقافات والحضارات، فهناك قيم إنسانية مشتركَة بين جميع الناس والتي من شأن الوعي بها أن يُجنِّب الإنسانية الكثير من الصراعات والخلافات التي لا تصبّ في مصلحة الانسان وتمنعه من العيش الكريم في استقرار وأمان، والقيم التي يحملها التصوّف السُنّي كثابت من ثوابت الهُوية الدينية والوطنية للمملكة المغربية، والتي جعلته يساهم الى جانب باقي الثوابت الدينية والوطنية في إرساء قواعد التسامح والوسطية والسلم والسلام والتعايش في المجتمع المغربي، ونبذ الكراهية والتعصّب، وهو ما جعل من المغرب نموذجا للتفاعل الحضاري والتعايش الديني.
الأخلاق والروح
*وماذا عن البُعد المقاصدي للتصوّف والتربية الروحية؟
** إن الإسلام يسعى الى تحقيق السمو الأخلاقي والروحي، وترسيخ أواصر التعامل الأخلاقي بكلّ مقوماته، والأخلاق هي جوهر الدين، والمؤمن يعيش الحياة المادّية ولكنّه دائم التعبّد والتفكّر والذكر، يعمل لدنياه ويُقبل على العبادة باجتهاد. إن تمثُّل المضامين الأخلاقية للتصوّف الذي هو مقام الاحسان، يمكن أن يسهم في حلّ النزاعات وفكّ التوتّرات وتقليص الفوارق وإشاعة ثقافة التعاون والتعايش المشترك، إن للتصوّف روحا معنوية تسري في القلوب لتمدّ العقول بأسباب الإبداع والأمل والنهوض، وتجتث جذور اليأس والهدم والعدمية.
من ثم نؤكّد على ضرورة تربية الشباب على القيم الأخلاقية باستثمار الوسائل الحديثة.
أن الهوى يطمس نور العقل ويعمي بصيرة القلب ويصدّ عن اتّباع الحق، إن الإنسان إذا اتّبع هواه فسد رأيه فلا تنفع فيه عظة. وأنه كلّما ضعف الإيمان في القلب كلّما كانت الغَلَبة للهوَى، فالهوى مرض خطير ما خالط شيئا إلا أفسده، لذلك حذّر القرآن الكريم من اتّباع الهوى، ولا يستقيم إيمان العبد حتى يكون هواه تبعاً لما جاء به النبي، وكما قال النبى: “لا يؤمن أحدُكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئتُ به”. إن مخالفة الهوى علاج فعال لأمراض القلوب التي متى تحرَّرت منه إلا وانطلقت نحو العمل الصالح، لكن من وقع في هذا المرض فيحتاج إلى طريق لعلاج نفسه وتمرينها على ما يخالف هواه. ولا يكون ذلك إلا بمجاهدة النفس الأمَّارة بالسوء والتجرّد من الصفات الذميمة والتحلّي بالأخلاق السامية، وتدريب النفس على أخلاق الرحمة والمحبّة والودّ والتسامح التي تجعل القلب ينبض محبّة لله.
الأخلاق هي عنوان صلاح الأمم والمجتمعات، وأنها تعكس ثقافة الأُمَّة ورُقِيَّها وحضارتها، إذا شاعت في المجتمع الأخلاق الحسنة حفظت الحقوق وقويت أواصر المحبّة بين أفراد المجتمع، وبالمقابل إذا شاعت الأخلاق السيّئة ضاعت الحقوق وانتشرت القطيعة بين الأفراد واختلّ الأمن الروحي للمجتمع ككل.
إن الأخلاق عليها مدار نجاح الإنسان في هذه الحياة، والشريعة الإسلامية بأحكامها ومقاصدها، إنما هي شريعة أخلاقية، والإسلام نجح في مدّ الجسور الواصلة بين الفرد والعالم المحيط به، وبينه وبين الله، وبينه وبين باقي البشر، موافقين له كانوا أم مخالفين، إن الأخلاق الحسنة ليست مجرد قيم مجردة، وإنها الأعمال الصادقة في طلب وجه الله غايتها النفع والاستمرارية المتوافِقة مع تعاليم ومقاصد الشريعة الإسلامية، غايتها الإسهام في بناء مجتمع أفضل وتحقيق السعادة الحقيقية للعباد في الدنيا والآخرة.
وفى هذا الإطار لابد من تسليم العبد لمولاه، فالله عزَّ وجلَّ وضع لهذا الكون سُنَنَ ونواميس تحكمه، وقوانين ينضبط لها الناس في حياتهم.
هذا الاعتقاد يمنح الانسان الاطمئنان فيسلِّم أمره لخالقه، بل إن التسليم لله من الأسس الإيمانية التي تنير للناس دروب حياتهم وتهوّن عليهم مصاعبها، خاصة في عالمنا المعاصر الذي يتّسم بطغيان الماديات. إن تسليم العبد لمولاه يكون بتسليم القلب واللسان والجوارح، فيعتقد عن يقين تام أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له فينقاد لربِّه في ظاهره وباطنه.
إن التسليم والرضى بقدر الله هو أعلى مراتب الإحسان وأكملها، فالإنسان المؤمن يحتاج إلى كثير من مجاهَدة النفس لتهذيبها وحملها على التسليم لله ،ومعاكسة وساوس الشيطان الذي يوسْوِس له ليخرجه عن جادّة الصواب وعن الصراط المستقيم، فكل شئ من الله وإليه.
تربية النفوس
• وما هو المنهج الصوفى فى تربية النفوس وتوجيهها بما يتّفق والمقصد الربّانى؟
** إن الإسلام عني بإيجاد شروط الحياة المتوازنة للإنسان على صعيدي الباطن والظاهر، وعالج صلاح المجتمع بصلاح أفراده، بتزكية نفوسهم وتصفية بواطنهم، فالباطن هو الذي يحرّك الإنسان إلى الأعمال الصالحة. إن التوازن بين ما هو مادي وما هو روحي هو الذي يؤَّمن للإنسان الإنطلاق في دروب الحياة. فيعمل لدنياه كأنه يعيش أبدا، كما يعمل لآخرته كأنه يموت غدا. ومن ثمّ تأتى ضرورة تربية النفوس على المزاوجة بين الخوف والرجاء، متلازِمَين لا ينفكّ أحدهما عن الآخر. فالخوف من الله سائقٌ للإنسان إلى فعل الخير، وحاجز له عن كلّ شرّ، والرجاء قائد له إلى مرضاة الله وثوابه، وإلى صالح الأعمال.
إن مراقبة الإنسان لنفسه يُثمر استقامته ويورث الصحة والاستقرار النفسي، فيغدو هذا الإنسان صالحا نافعا لنفسه ولمجتمعه، وللناس أجمعين، مما ينعكس على المجتمع ككل بالأمن والأمان.
إن السمو الأخلاقي والاستعداد الروحي للإنسان لنيل مقامات الكمال والإحسان، ركنٌ مهم في حياة الفرد والمجتمع، فالأخلاق مقوِّم أساسٌ في الحضارة الإنسانية؛ فواجبنا استعادة القيم الأخلاقية، والمبادئ السامية التي ضاعت في خضم الأحداث المتسارِعة، وما يعرفه واقع المجتمعات من تحوّلات سلبية. فالرسول الكريم جعل الهدفَ الأعظمَ من رسالته إتمامَ مكارمِ الأخلاق، والإصلاح النفسي يعدّ الدعامةَ الأولى لتغليبِ الخير في هذه الحياة، والإنسان هو ذلك الكائن الأخلاقي الذي أعدّه الله سبحانه لقابلية الارتفاع بذاته إلى درجات الكمال البَشَري بمقتضى النفحة الإلهية التي استودعها الله. إن التخلُّق بمكارم الأخلاق يمثّل خلاصة ما جاء به الشرع الإسلامي الذي اهتم ببناء الإنسان بناء متكاملا، مغ ضرورة إعمار الإنسان معنويا وبنائه روحيا وأخلاقيا.
دحض الافتراءات
• البعض يتّهم الصوفية بالإغراق فى الغيبيات بالحديث عن الجنّة والنار، والأخلاق والتربية الروحية، بعيدا عن الواقع المُعَاش، فماذا نقول لهم؟
** إن ما تفعله الصوفية عامة، والبودشيشية خاصة، من أنشطة وفعاليات، وآخرها الملتقى الذي تحدّثنا عنه، يدحض كلّ هذه الافتراءات والمزاعم.
أما مسألة الحديث عن الجنّة فهى النعيم الدائم، أهلها يحظون بالنظر إلى وجه الله الكريم، فالجنّة هي سلعة الله الغالية، ونَيْلُها يتطلّب أن يُشمِّر الإنسان عن ساعد الجدّ ويجتهد في طاعة الله، باتّباع أوامره واجتناب نواهيه. وعلينا اغتنام فترة الشباب والصحّة والغنى والفراغ بصالح الأعمال، فالجنّة درجات، وأهلها يتفاوتون فيها على مقدار العمل في هذه الدنيا، وهو ما يستوجب الإحسان في العمل.
وصلاح حال العبد ظاهرا وباطنا ينعكس إيجابا على حياته وحياة من حوله من الناس، ليعمّ النفع والخيرية الجميع، فينعكس ذلك إيجابا على المجتمع ككل، وهذا ما يؤكّد أهمية ترسيخ القيم الروحية والأخلاقية للإسلام في النفوس، وأهمية الممارسة الفعلية لهذه القيم.
نحن لدينا ما يُعرف بقانون “الارتداد الإلهي”، وهو أحد السُنن الكونية، حيث خلق الله الكون ووضع فيه سنن وقوانين تحكمه، هذه السنن من قَدَرِه الجاري النافذ في الخلق أفرادا وأُمَمًا. والجزاء من جنس العمل، فمن يعمل خيرا يرتدّ إليه خيرا، ومن يعمل شرًّا يرتدّ إليه شرًّا، فما من عمل أو فعل يقوم به الإنسان إلا ويرتدّ عليه في مقابله عطاء أو سلبا، سعادة أو شقاء. إن الله جعل لقيام العبد بالعبادات والطاعات وفعل الخيرات أثرا عجيبا يعود عليه وعلى أهله بالخير العميم، وتفريج الهموم، وقضاء الحاجات، والفوز بالنعيم المقيم، وانطلاقا من القرآن الكريم والهدي النبوي، حدّد أربعة بنود لقانون الارتداد الإلهي وهي أولا: الاستغفار، وأثره في تحقيق أسباب السعادة في الدنيا من مال وبنين وغيرهما من أسباب السعادة.
ثانيا: فعل المعروف الذي يقي صاحبه مصارع السوء التي تكدّر حياة الإنسان وتنغِّصها من مرض أو نَصَبٍ أو مصيبة أو حادث.
ثالثا: الصدقة وإخراج الزكاة، طلبا لمغفرة الذنوب وتزكية النفس البشرية وطهارة لها من هذه المعاصي. رابعا: الحرص على صِلة الرحم، فمن وصل رحمه بالبرّ والإحسان، وصله الله في عُمره ورزقه.
وإذا تحدثنا عن ”خُلَّة المتّقين وطلب وجه ربّ العالمين” فإن التربية الإحسانية تسعى إلى صلاح الإنسان وصلاح حال الدنيا والدين عن طريق بناء جوهر الإنسان وتأهيله روحيا وأخلاقيا، هذه التربية تقوم على صحبة الشيخ المربِّي، فالصاحب يكتسب صفات صاحبه بالتأثُّر الروحي والاقتداء العملي، والاشتغال بالتربية الروحية الأخلاقية نهج يتوارث، بسَنَدٍ متّصل. فليس كلّ من ادّعى المشيخة والتصدُّر لباب التربية صار مُرَبِّياً؛ ولو تلوَّن بـ”زِيِّ” العارفين المُرَبِّين، ولو أظهر الخوارق والكرامات، فليس كلّ من لبس ثوب الأطباء صار طبيباً.
وأستشهد هنا بمقتطف من رسالة الدكتوراه “مؤسّسة الزوايا بالمغرب، بين الأصالة والمعاصرة” لشيخ الطريقة القادرية البودشيشية، مولاي د. جمال الدين حفظه الله “… إن تاريخ التصوّف المغربي يبرز أن متصوّفة المغرب كانوا يتميّزون بمنهج خاص في التربية والسلوك، يقوم على أساس الورع والاجتهاد في العبادة على منهج السَلَف، بعيدا عن لُغة الأحوال والمقامات كما أنهم لم ينقطعوا عن ممارستهم للحياة الاجتماعية العادية وكانوا يسلكون طريق التذوّق والارتقاء في مقامات أهل الطريق مع عدم المبالاة بظهور الكرامات أو حصول الشُهرة ويسعون إلى التستُّر دون انعزال عن المجتمع”.
فالعبادات ينبغي أن تُثمر سلوكا من الرحمة واللّين والمعاملة بالحسنى، فكلّ خير وكلّ فضل في حياة الإنسان ما هو إلا ثمرة من ثمار طهارة قلبه ونقاء روحه بكلمة التوحيد الطيّبة، ونور الإيمان بالله فيصلح باطنه وظاهره، ويحسن سلوكه وتحدوه الرغبة في خدمة إخوانه في البشرية وقضاء مصالحهم، كما حدث مع المسلمين التّجار الذين كانوا بحُسن معاملتهم سفراء لإسلام الرحمة وسببًا في دخول أهل بلدان شرق آسيا وغرب إفريقيا طواعية إلى الإسلام.