بقلم /الدكتور ناصر الجندي
كان الفجر يتسلل ببطء إلى سماء المدينة عندما استيقظ منصور من كابوس مزعج. في منامه، رأى نفسه يغرق في بحر من الأوراق النقدية، وأصوات استغاثة الطلاب تتعالى من حوله. عشرون عاماً قضاها في منصبه كوكيل للمدرسة، حوّل خلالها المكان إلى إقطاعية خاصة، يحكمها بقبضة من حديد وقلب من حجر.
في طريقه إلى المدرسة، كان يتأمل انعكاس صورته في مرآة سيارته الفارهة – تلك السيارة التي اشتراها من أموال “التبرعات الإجبارية” التي كان يفرضها على أولياء الأمور. رأى في عينيه نظرة قاسية لم يلحظها من قبل، وتجاعيد عميقة حفرها الزمن في وجهه، كأنها خرائط لمسارات ظلمه.
عند بوابة المدرسة، وقف كعادته يتفحص الطلاب. لكن هذا الصباح كان مختلفاً. لاحظ همساً غريباً بين المدرسين، ونظرات متوترة يتبادلونها. حتى السيد رشاد، حارس المدرسة الذي كان شريكه في جباية الأموال غير المشروعة، بدا شاحب الوجه، متوتر الأعصاب.
قبل أسبوعين، كان قد طرد الطالب أحمد، ابن عائلة فقيرة، من المدرسة لعدم قدرته على دفع “المصاريف الإضافية”. لم يكن يعلم أن والد أحمد، رغم فقره، كان صحفياً يعمل في الخفاء على تحقيق استقصائي عن الفساد في المدارس. أصبحت قصة أحمد القشة التي قصمت ظهر البعير.
في غرفته، جلس منصور يعد حصيلة الأسبوع من الأموال غير المشروعة. فجأة، سمع طرقاً على الباب. كان المدير، السيد حسن، الذي طالما تغاضى عن تجاوزات منصور مقابل حصة من الأرباح. دخل المدير بوجه شاحب وقال بصوت مرتجف: “لقد وصل التحقيق للوزارة… علينا أن نخفي كل الأدلة.”
لكن الوقت كان قد فات. في تلك اللحظة بالذات، كانت عجلات العدالة تدور. في مكتب النائب العام، كان ملف كامل يوثق كل تجاوزات منصور – شهادات من طلاب سابقين، إيصالات مزورة، تسجيلات صوتية، وأدلة دامغة على عشرين عاماً من الفساد المنظم.
عند الساعة العاشرة صباحاً، توقفت ثلاث سيارات سوداء أمام بوابة المدرسة. نزل منها رجال بملابس مدنية وآخرون يرتدون زي الأمن المركزي. تجمهر الطلاب عند النوافذ يراقبون المشهد. كان بينهم كريم، طالب الصف الثالث الثانوي، الذي طالما عانى من ابتزاز منصور. ابتسم كريم ابتسامة هادئة وهو يلتقط صوراً بهاتفه المحمول.
دخل الضباط إلى مكتب منصور. حاول المقاومة، صرخ، توسل، عرض رشوة، لكن كل شيء كان قد انتهى. وبينما كانت الأصفاد تُحكم حول معصميه، بدأت ذكريات الماضي تتدفق في رأسه – دموع الأمهات الفقيرات، توسلات الطلاب المحتاجين، الأحلام التي حطمها بجشعه.
في طريقه إلى سيارة الشرطة، مر منصور بين صفين من الطلاب والمدرسين. رأى في عيونهم مزيجاً من الشماتة والارتياح. وفجأة، لمح وجه أحمد وأبيه الصحفي في الجمع. كان الأب يبتسم ابتسامة هادئة، بينما رفع أحمد كتابه المدرسي في إشارة صامتة للنصر.
في تلك اللحظة، أدرك منصور حقيقة بسيطة لكنها عميقة: الظلم مهما طال أمده، لا بد أن ينتهي. وبينما كانت السيارة تبتعد عن المدرسة، بدأ المطر يتساقط برفق، كأنه يغسل عقدين من الظلم والفساد.
في اليوم التالي، تصدرت قصة القبض على منصور الصفحات الأولى للصحف. كتب والد أحمد مقالاً مؤثراً عن كيف تحولت المدارس من منارات للعلم إلى معاقل للفساد. وفي الفصول الدراسية، بدأ المعلمون يتحدثون مع طلابهم عن معنى العدالة والنزاهة.
أما منصور، فقد اختفى خلف القضبان، يجتر ذكريات الماضي ويتأمل في دروس الحياة القاسية. في زنزانته الضيقة، كتب في مذكراته: “لم أكن أدرك أن السلطة التي ظننتها قوة، كانت في الحقيقة بذرة سقوطي. وأن المال الذي جمعته بالحرام، كان في النهاية ثمناً لحريتي.”
وهكذا طويت صفحة من صفحات الظلم، لتبدأ المدرسة عهداً جديداً. في مكتب الوكيل الجديد، عُلقت لوحة كُتب عليها: “العلم نور، والظلم ظلمات. ولا يجتمع النور والظلام في مكان واحد.”