900
900
مقالات

نيلسون مانديلا.. الملهم الحر

900
900

بقلم / أمنية الخولى

كأنه خرج من قصيدة شعر أمل دنقل
كلمات سبارتكوس الأخيرة
رافضا الانحناء
ليدخل قصيدة أبوالقاسم الشهابى.. إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر ومنها خرج السجين المظلوم بعد 30 عاما ليصبح أول رئيس أسود لجنوب أفريقيا نافضا عنها غبار العنصرية والاضطهاد
وكاتبا تاريخا جديدا لمن قالوا لا فى وجه الظلم والظالمين.
إنه نيلسون مانديلا .. يكفيه ويكفينا الاسم.. للرجل الذى أبصر النور فى 18 يوليو عام 1918 ولم يكن أبيه يعلم حين سماه “روليهلاهلا” أى المشاكس بلغة قومه الأفارقة سيكون ميلاده يوما تحتفى به الأمم المتحدة سنويا.
على الفطرة الإنسانية عاش الولد فى قريته مفيزو” أقصى شرق جنوب أفريقيا متمتعا بزعامة ومكانة والده لقبائلها وكما يقول فى مذكراته
كنت حرا أن أجري في الحقول قرب كوخ والدتي.. وحرا أن أسبح في القناة الصافية بقريتي وأمارس أنشطتى وألعابى الصبياني.. لكن الولد الأسود اصطدم بأن لا حرية لمن هم على لونه أو من الهنود وكانت أولى صدماته حين استطاع والده بعلاقات إلحاقه بمدرسة ابتدائية.. لكن معلمته جردته من اسمه الأفريقي لتطلق عليه “نيلسون” كعادة المدارس حينها بإعطاء الأطفال الأفارقة أسماء انجليزية.. وفى المدرسة انبهر بالحياة الغربية وحلم يوما أن يصبح “جنتلمان انجليزى”.
يتمتع بالحرية والديمقراطية والحياة المرفهة حتى أتت ثانى الصدمات عندما مات والده متأثرا بألامه الجسدية والنفسية بعد أن جرده قاض أبيض من زعامته لقريته لفصله فى شكاية انتزع فيها ملكية “ثور”
من رجل أبيض لجاره الأفريقى الأسود.. ما اعتبرته السلطات الانجليزية “عصياناً” وصادرت ممتلكاته ويموت بعدها مريضاً بالسلب.
اضطر نيلسون للسفر إلى جوهانسبرج تحت وصاية أحد أصدقاء أبيه
الذى حرص على تعليمه حتى التحق بكلية الحقوق.. فتحول المشاكس إلى مناضل حين انضمّ للاحتجاجات الطلابية ضدّ سياسات التمييز العنصري وطُرد على إثرها من الكلية عام 1940 لكنه أكمل دراسته بالمراسلة حتى حصل على ليسانس الحقوق.
أثناء تلك الرحلة فى جوهانسبرغ توالت الصدمات للمحام الشاب بعد معايشته لكافة أشكال الاضطهاد الذى ورثته جنوب أفريقيا منذ الاستيطان الأوروبى في القرن السابع عشر من جنسيات فرنسية وألمانية وهولندية وانجيلزية حتى أحكمت الامبراطورية البريطانية
قبضتها على الحكم فى القرن التاسع عشر ورأى ويسلون كيف وقع بلده الطيب فريسة لنهب الثروات وفوقها امتهان أهله ضمن أقسى نظام عنصرى عرفته البشرية على مدار تاريخها.. فكانت جريمة أن تدخل من باب مخصص للبيض وجريمة أن تركب حافلة للبيض وجريمة أن تستعمل صنبور مياه للبيض وجريمة أن تسير على شاطئ مخصص للبيض.. وحتى بعد استقلال جنوب أفريقيا عام 1911 أصبحت من دول الكومنولث البريطانى فكان النظام الحاكم موالياً للمملكة المتحدة
ومحملا بميراث الاضطهاد والتنكيل تجاه السكان الأصليين وبين كلّ هذه العنصريّة والعنف المنهج تبلورت أفكار نيلسون الذى عرف طريقه وبدأ رحلة نضاله ضد نظام الفصل العنصري “الأبارتيد” الذى أقر قانونيا عام 1948 فانضمّ لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي وأصبح أهم قياداته بخطبه الأثرية التى ألهبت مشاعر الجماهير ضد النظام الجائر وتعرض بسببها للاعتقال أكثر من مرة.
كانت عقيدة مانديلا قائمة على الكفاح السلمي تأثرا بتجربة غاندى فى الهند.. لكنّ حكومة الفصل العنصري لم تترك له فرصةً للمقاومة السلمية
وأجبرته على حمل السلاح حين وقعت مجزر”ة شاربفيل” الوحشية
يوم 21 مارس1960.. عندما أطلقت الشرطة النيران على مظاهرات ضد قوانين الاجتياح المقيدة لحركة السود ومنعهم من الاقتراب من المدن التي يقطنها المستعمرين البيض وسقط خلال الاحتجاجات 60 قتيلا.. وعقبها أسس مانديلا ورفاقه منظمةً “رمح الأمّة” عام 1961
لتكون الجناح المسلّح للمؤتمر الوطني الإفريقي وقاموا باستهداف منشآت حكوميّة وعسكري وأصبح نيلسون المطلوب الأول للسلطات فمارس العمل السرى على مدار عامين استطاع خلالها الخروج إلى الجزائر وأثيوبيا لتلقي التدريب ضد الإستعمار.. وكان يرى فى جمال عبد الناصر زعيما ملهما استطاع تحقيق آمال شعبه فى الحرية والاستقلال.
وخلال جولته الأفريقية يظهر لنا وجها أخر لمانديلا كشفته صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية عبر وثيقة نشرتها بعد أسبوع على رحيله تفيد تلقى الزعيم جنوب أفريقى تدريبا عسكريا عام 1962 على يد جهاز الاستخبارات الإسرائيلية “الموساد” فى نفس العام الذى فر فيه من بلاده متجولا فى أفريقيا بحثا عن الدعم المالي والعسكري “لمنظمة “رمح الأمة حيث قصد مقر السفارة الاسرائيلية فى أديس أبابا وقدم نفسه باسم “دافيد موبسارى” و قال إنه قادم من روديسيا “زيمبابوى حاليا” وتلقى التدريب على يد عملاء الموساد على استعمال السلاح
ونصب الكمائن وصناعة الديناميت ووصف مانديلا فى كتاب سيرته الذاتية وقائع تدريبه.. لكنه لم يذكر علاقة السفارة الاسرائيلية بها
ولاحقا زار مانديلا اسرائيل وغزة عام 1999 فى زيارة أثارت جدلا واسعا.. حين طالب العرب بالاعتراف بالدولة العبرية وانصب تضامنه مع حقوق الشعب الفلسطيني على ضرورة انسحاب اسرائيل من الضفة الغربية وتأسيس دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل فى الخامس من أغسطس عام 1962 تم اعتقاله وحكم عليه بالسجن 5 سنوات
جراء دعواته للاضرابات والعصيان المدني ثم لفقت له تهما جديدة
بالخيانة والتخريب والتآمر ضد استقلال البلاد ليصدر حكما بسجنه مدى الحياة.. 28 عاما وراء القضبان في زنزانة بجزيرة روبن آيلاند المعزول.. لكنها لم تكن استراحة محارب بل كانت مسيرة جديدة
لإبقاء جذوة الكفاح مشتعلة بالتواصل مع المقاومين فى الخارج
ونقلت صحف عالمية دفاعه عن نفسه أثناء المحاكمات التى أدانته
لا لشئ سوى تطلعاته لإنهاء مأسى شعبه مؤكداً أن قضيته ليست موجهة إلى كره البيض.. بل كانت أماله خلق وطن ديمقراطي
يتمتع فيه الجميع بالمساواة والعيش فى سلام فأصبح اسمه ملء السمع والبصر داخل وخارج جنوب أفريقيا.. وخاضت منظمات وحكومات حملات واسعة للإفراج عن مانديلا حتى ظهر نور فى النفق المظلم عندما اضطر رئيس جنوب إفريقيا حينها الاستجابة إلى مناشدات قادة وزعماء دوليين والدخول في مفاوضات مع نيلسون
مشترطا تخليه عن نهج المقاومة وإدانته لما يقوم به مناصرو “المؤتمر الوطني”.. لكن مانديلا رفض تقديم أى تنازلات واكتفت السلطات بنقله إلى سجن آخر تحسنت فيها أوضاعه مع رفقائه وخلالها تمكن من كتابة سيرته الذاتية “مسيرة طويلة نحو الحرية” ترجمت إلى كل لغات العالم
استمرت حملات الدفاع عن مانديلا وبعد ضغوطٍ دولية كبيرة اضطرت الحكومة للإفراج عنه عام 1990 ليواصل رحلة كفاحه بمفاوضاتٍ طويلة أنهى بها الرئيس ويليام دي كليرك نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا ونال معا جائزة نوبل للسلام عام 1993 وحينها قال الزعيم الجنوب أفريقى كلمته الشهيرة “عندما خرجت من السجن
كانت مهمتي تتمثل في تحرير الظالم والمظلوم معا” بعدها بعام أقرت جنوب أفريقيا دستورا عادلا أصبح فيه كل مواطنيها على قدم المساواة
وأقيمت أول انتخاباتٍ ديمقراطية متعددة العراق انتخب فيها مانديلا كأول رئيس أسود وكان حينها فى عمر 76 وخاض معركته الجديدة للتنمية والبناء وإرساء دعائم المصالحة وتضميد الجراح واضعا جنوب أفريقيا الحرة على الساحة الدولية بمعدلات غير مسبوقة فى النمو الاقتصادى.. وأثر الرحيل فى أوج مجده فلم يرغب فى الترشح لفترة رئاسة ثانية تاركا السلطة لرفيق كفاحه ثابو مبيكي ويتفرغ إلى مؤسسته الخيرية لمكافحة الإيدز وغيرها من الفعاليات حول العالم
حتى ترجل إلى مثواه الأخير فى 5 دسيمبر 2013 عن عمر 95 عام
بينما يظل تمثاله البرونز يقف بشموخ أمام ساحة البرلمان البريطانى
فيما يحمل 25 شارعا اسمه فى ضواحى البلد التى حاربته وطاردته يوما ما ووصفته رئيسة وزرائها “مارجريت تاتشر” بأنه “رجل ذو عقل منغلق” ليلهم مانديلا العالم بأن خلف كل قيصر يموت مناضل لا يلين
المصادر:
كتاب “مسيرة طويلة نحو الحرية” لنيلسون مانديلا
ترجمة “فاطمة نصر” دار الهلال 1995
وأعادت نشره مكتبة الأسرة عام 2010

اترك تعليقك ...
900
900
زر الذهاب إلى الأعلى