في الجزء السابق تعرفنا على مراحل ظهور السينما المغربية وأبرز روادها الذين حملوا لواء إخراج عدة أفلام، وتطرقنا للعوامل التي ساهمت في تألقها كأدات عاكسة للمجتمع المغربي، كما أشارنا للقمع الممنهج الذي مارسته الدولة على القطاع السينمائي، باعتباره وسيلة لشحن المواطن بأفكار اليسار المعادية لسياستها، مما أذى إلى ظهور سينما جديدة معارضة لأفكار الدولة التضليلية.
ورغم خصوصية التجربة و إرغاماتها، فإن الأفلام السالفة الذكر (الجزء 1) شكّلت أفقا لخلخلة النمودج و “أشكلة” الواقع السينمائي ، و إعادة الرؤية في الواقع و الأنساق والمتخيَّل، إلى درجة أن البعض صنَّفها ضمن “السينما البديلة” أو “السينما النضالية” أو “سينما الورشة”، التي تستدي المتخيل المحلي عبر بناء أسطوري/رمزي/حلمي يملأ أفق التوقع بالإلتباس و التردد لإنفتاح هذا النوع من التجريب على الأنتروبولوجيا و علم النفس و السيميائيات، وهو ما جعل الإقبال عليه شبه مستحيلا.
أما النوع السينمائي الجديد الذي اقترحه المخرجون المغاربة في مرحلة السبعينات، كان دائما مهدد بثنائية “الواقع و المتخيَّل” سعيا للتعبير عن إحتدام صراع بين الثنائية بالإعتماد على مصدر المرجع، و مصدر التجربة الذاتية، لذلك اتسمت أغلب الأفلام بميسم “السينما المثقفة”، فالمخرج المغربي يفكِّر سينمائيا و ينجز جماليا، و يبحث عن موقع المغرب داخل فلمه، إنه الإشكال المطروح على مستوى التلقي في تلك المرحلة “أين هو المغرب في الفلم؟”، أي أين هي الصورة العاكسة للذات، والحاملة لإنشغالاتها و تطلُّعاتها و أسئلتها؟.
وكان لازما أمام هذا الجدار العازل، بناء بلاغة سينمائية تتسم بالتماسك و الوضوح في علاقتها مع المتلقي المحقون ببلاغة تقليدية، موغلة في الفرجوية و الخطية و عدم إختلاف أفق التوقع، فما العمل إدن، إذا كان كل فلم يحمل رؤى صانعيه، سياسيا و فكريا، و أنه يجب إستغلال المقدرة الهائلة للسينما من أجل تشكيل وعي المشاهدين أو إعادة تشكيله؟ و كيف يمكن كسب معركة “انحسار التلقي” على مستوى الكتابة السينمائية وبناء القصة، لا على أساس “الترفيه” فحسب، بل على أساس التثقيف و التوعية وتأكيد أن السينما سلطة مضادة، و ليس فرجة توفِّر الحلم للمحرومين و تؤجِّل طموحهم في التغيير.
ويعتبر المهرجان الوطني للسينما المغربية (1982) نقطة تحوُّل من لحظة تأسيس السينما إلى البحث عن جمالية جديدة، و اغتنت التجربة السينمائية بمبادرات نهلت من أصول جمالية و إبداعية متنوعة، و قد بلغ عدد الأفلام التي أنتجت في مرحلة الثمانينيات 38 فلما، ورغم دخول مخرجين متميزين جدد على الخط، فلم تنجح هذه التجربة في النقص من حدة العرض القائم، ولم تنجح إلا في اقتراح تجارب أخرى تراهن أساسا على المكون الجمالي لخدمة إبداعيتها، وعلى سبيل المثال لا الحصر، أثبت المخرج ” *مصطفى الدرقاوي*” في فلميه “أيام شهر زاد الجميلة” سنة 1982، و “عنوان مؤقت” سنة 1984، تجربة فريدة، حيث وجد المخرج نفسه عاجزا على التواصل مع جمهوره بشكل يكاد يكون مطلقا، لأن سرده الفيلمي المتميز انبثق عن تجربة مرجعية غربية، لكون هذا المخرج درس الإخراج ببلونيا، أي ارتشف ثقافة غربية طبعت إنتاجاته، وهو مخالف لما اعتاده ذوق المشاهد المغربي وحسه الجمالي.