بقلم / فريال الشهباني
مختصة في التصرف الإستراتيجي و الديبلوماسية الإقتصادية
لفهم السلوك الروسي و نوياه علينا فهم النقطة الأضعف بالنسبة لروسيا على المستوى الجيو استراتيجي و نعني بذلك حدودها خصوصا الشمالية الغربية. عندما كانت أوكرانيا تحت قبضة الدولة الروسية لقرون عديدة و عندما كانت بيلاروسيا و مولدافيا تشكلان جزءا من الإمبراطورية الروسية أيضا . لم تكن هناك حدود طبيعية لروسيا في الشمال . فالوسط و الجنوب مرتبطان جغرافيا بجبال الكاربات باتجاه الشمال وصولا الى الحدود السولفاكية البولندية . أما في شرق تلك المناطق فهناك سبخات برايبر و هي عبارة عن مستنقعات يصعب عبورها . و بينما لا توجد في الشمال و الجنوب أي الى الشرق من جبال الكاربات أية عوائق تذكر يمكن أن تشكل حماية لروسيا أو لدول الجوار.
وبالنسبة للسهول الأوروبية بالشمال فإنها قد تشكل إحدى المداخل المفتوحة بإتجاه الحدود الروسية لذلك فهي تبقى عرضة للهجوم بغض النظر عن الخط الذي يرسم حدودها .. فتلك السهول لا تمثل الا قلة قليلة من الموانع الطبيعية أين يمكن أن تعيق الهجمات. و حتى لو مدت روسيا حدودها الغربية وصولا لألمانيا فان ذلك لن يوفر لها المناعة الكافية التي قد تستند عليها، فكلما توغلت القوات الروسية غربا في العمق الأوروبي اتسع نطاق حدودها و ازدادت المسافة التي يتعين على من يفكر في غزوها قطعها كي يصلوا الى تخوم موسكو . لذلك ما تعمل روسيا عليه دائما للتمدد غربا في اتجاه السهول الأوروبية الشمالية و هو ما تعمل عليه أيضا دائما دول أوروبا الأخرى أي التمدد شرقا .
هنا لا نتحدث عن حدود روسيا الأخرى ما نعنيه هنا يدخل ضمن نطاق حدود الاتحاد السوفياتي السابق الذي كان يشكل الحدود العامة و التقريبية لروسيا منذ نهاية القرن التاسع عشر . ففي الجنوب كانت هناك حدود طبيعية امنة فالبحر الأسود يؤدي الى منطقة القوقاز التي تفصل روسيا عن كل من تركيا و ايران هذا من جهة، و من جهة أخرة و بالتمعن في الحدود الروسية بغض النظر عن الشكل الذي تتخذه تعتبر سياسيا امنة نسبيا باستثناء حدودها الشمالية مع أوروبا حيث تواجه أشد الأخطار و المتمثلة بالجغرافيا و الدول الأوروبية القوية .
و خاصة بعد انهيار الشيوعية حيث بدأت ترسم حدودها بوضوح كمثال فقد كانت مدينة سانت بيترسبيرغ على بعد ألف ميل من قوات حلف الناتو بسنة 1989. و حيث صارت لا تبعد عن تلك القوات إلا مسافة أقل من مائة ميل فقط. و أما في الجنوب و بعد حصول أوكرانيا على استقلالها فان سيطرت الروس على البحر الأسود أضحت هشة جدا . وأما على منطقت الهملايا فقد أضمحلت و ولت . و عليه أصبحت مشكلة روسيا تكمن في حقيقة أنها دولة مترامية الأطراف و لو أنها تعرضت في وقت واحد لهجوم على كافة حدودها فمن الصعب مواجهتها رغم قوتها . فحماية حدودها ليست مشكلتها الوحيده إذ هي تعلم أن لها أزمة ديموغرافية أيضا و أن عدد سكانها سينخفض الى 125 و 90 مليون نسمة بحلول 2050 .
هنا أصبح لابد للروس في خضم مشكلاتها الجيوسياسية و الاقتصادية و الديمغرافية من القيام بنقلة نوعية . فقد سعت على امتداد الأعوام الماضية الى تحديث بلادها و اعادة هيكلة كل قطاعاتها الحيوية الاستراتيجية من خلال التصنيع لكنها لم تنجح.
و بحلول عام2002 غيرت روسيا من استراتجيتها بدل التركيز على التطوير الصناعي ركزت على التصدير للثروات الطبيعية خصوصا مصادر الطاقة بل تجاوزت ذلك لتصدير الثروات المعدنية و المنتجات الزراعية و الأخشاب و المعادن الثمينة .
حيث ساهم الارتفاع الغير متوقع لاسعار الطاقة و البضائع في نجاح هذا الدرب في انقاض الاقتصاد الروسي و الأهم أن انتاج المواد الطبيعية لا يحتاج الى يد عاملة بشرية بقدر ما يحتاجه التصنيع . فقد مكن هذا الأمر روسيا من إقامة قاعدة اقتصادية يمكن أن تخفف من من مشكلة التناقص السكاني الذي تعاني منه .كما مكنتها من الحصول على موقع هام في النظام العالمي. فأروبا متعطشة للطاقة اذ أصبحت صادراتها بمثابت الهيروين لبعض الدول .بالاضافة الى الموارد الطبيعية الأخرى التي جعلت منها قوة قادرة على ممارسة ضغوطات على أوروبا
الاعتماد على الغير سلاح ذو حدين . فروسيا لا يمكن لها الضغط على جرانها لأن جرانها قد يقررون أن يثبوا على ثرواتها كتفكير استباقي للمخاطر . و لذا أصبح على روسيا ضرورة استعادة مكانتها العسكرية . أن تكون احدى الدول قوية و ضعيفة في ان يجعلها في حالة حرجة. روسيا أدركت أن الصعود الاقتصادي و امتلاكها لموارد طبيعية مصدرة لأوروبا تقضي عليها أن تتموقع في وضع يمكنها من حماية ما تملكه و خلق البيئة الدولية المناسبة لها في المحيط الذي تعيش فيه .
عندما تيقنت روسيا من هذا الخطر الاستشرافي المحدق حيث وجهت هدفها على أن تكون غنية للقطع مع تدهورات الماضي و أدركت أن أمامها تحدي و خطر استشرافي وجب التأهب الاستباقي له المتمثل في عدم أمان حدودها .لذا عليها في هذه الحال تسخير جزء من ثروتها لتعزيز القوة العسكرية و تمكنها من مستوى مناسب لحماية مصالحها و خلق مناطق عازلة تحميها في المحيط الدولي . اذ تمركزت الاستراتجية الكبرى لها على خلق مناطق عازلة عميقة على امتداد السهوب الأوروبية في الشمال وذلك بغية خلق توازن إقليمي جديد في أوروبا . الخطوط الحمراء بالنسبة لها التي من الصعب لها تقبلها هو وجود حدود متشابكة من دون أن تكون هناك مناطق عازلة تفصل بين تلك الحدود.
المخطط الاستباقي الروسي في هذا الاطار يحمل ثلاث أهداف بارزة أولها استعادة نفوذها و سيطرتها الفعالة على دول الاتحاد السوفياتي سابقا و ذلك عبر إعادة انتاج نظام من المناطق العازلة التي كانت سائدة سابقا ثانيا السعي لانشاء نسق ثاني من المناطق العازلة خارج حدود الاتحاد السوفياتي ثالثا محاولت منع أي تحالفات منائية لها .
قد تظهر روسيا في صورة العداء في حين أنها تبحث عن الدفاع و الذود عن حدودها مما يدفعها الى تنفيذ هذا المخطط بالحرص الشديد على تفادي ما وقع في حقبة الحرب الباردة من مواجهة لجدار صلب من المعارضة .
من المهم العودة على سيناريو الماضي للنظر في أسباب صمود الاتحاد السوفياتي طيلة النصف الثاني من القرن العشرين . الذي صمد ليس فقط عن طريق القوة بل من خلال نظام علاقات اقتصادية ساعدته على تحقيق التوازن . فقد كان يتمتع بجغرافيا مشتركة تتسم باتساعها كما أن ليس لها منفذ على البحر و تتوضع في قلب أوراسيا . كما أن منظومات الطرق البرية فيها محدودة جدا و متهالكة لذلك شكلت صعوبة نقل المواد الغذائية . و بعد الانتقال الى مرحلة التصنيع استمرة هذه الصعوبة أيضا في نقل المواد المصنعة .
الاتحاد السوفياتي السابق بصفته جزء من الأرض الاوراسية شاسعة المساحة الممتدة غربا من المحيط الهادي الى جنوب اسيا الوسطى وصولا الى بحر القازوين و من هناك بالتجاه منطقة القوقاز و من الحدود الشمالية القطب المتجمد الشمالي بحيث كانت طقع ضمن هده المساحة جمهوريات ذات اقتصاد ضعيف .
و لو تصورنا حينها أن الاتحاد السوفياتي تجمعا طبيعيا لبلدان معزولة جغرافيا و مشلولة اقتصاديا . لأدركنا سبب ثبوته متماسك فتلك البلدان التي تكون منها توحدت بحكم الضرورة . و صارة قادرة على التكامل فيما بينها و دعم بعضها بعضا . كانت تشكل تجمعا طبعيا من السهل على الروس السيطرة عليه أما الدول الواقعة وراء جبال الكاريات و هي الدول التي احتلتها روسيا سابقا في اعقاب الحرب العالمية الثانية فلم تكن جزء من تلكالمنظومة الطبيعية . و لم تكن القبضة السوفياتية القوية تمسك بتلابيب تلك الدول .
كان الاتحاد السوفياتي يتكون من دول أعضاء وجدت في انضمامها الخيار الوحيد اذ ان هذا المشهد القديم لايزال يسيطر غير ان النموذج الروسي الجديد المتمثل بتصدير الطاقة جعل تلك الدول اكثر اعتماد على روسيا اكثر من السابق . و في حين كانت تلك الدول منجذبة الى بقية أوروبا تماما مثل أوكرانيا التي تعتمد على روسيا في مجال الطاقة و حسب الاحداث الحالية تتجه نهاية المطاف بأن تكون تحت المظلة العسكرية الروسية .
هذه الدينامية التي ستستفاد منها روسيا كي تعيد نفوذها في فضاء المنطقة و الأهم من هذا كله النفوذ الروسي المرتقب في المنطقة خلال الأعوام القادمة و من المؤكد أنه سوف يتنامى بسرعة و للتفكير بهذه المسألة بالإمكان تفكيكها الى ثلاث مسارح عمليات القوقاز و اسيا الوسطى و المسرح الأوروبي الذي تدخل منطقة البلطيق ضمن نطاقه .