بقلم / إسماعيل أبو زيد
دبلوماسي سابق بالأمم المتحدة
لنذهب الآن إلى الذين يطفئون الأضواء في غرف المؤامرات الدولية ويضيئون فيها خارطة زجاجية للشرق الأوسط يتجمعون حولها ويتحدثون همسا عن الدور المصري المحتمل:
يتحدثون بشغف وترقب عن دور مصر الفاعل في إيقاف طبول الحرب الإقليمية التي رسموها للإيقاع بمصر في ليبيا وأثيوبيا ،
وعن دورها المتنامي في العمق الأفريقي وفي دول حوض النيل أساسا، وعن دورها في تعزيز وجودها العسكري بالمياه الإقليمية للبحرين الأحمر والأبيض ..
وعن دعم أواصر الصداقة النوعية مع روسيا والصين والهند
وعن اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع اليونان وقبرص
وعن استعادة الدور المصري السياسي والاقتصادي مع إيطاليا رغم محاولتهم اليائسة لتحجيمه ،
وعن التعاون العسكري غير المشروط مع فرنسا وألمانيا
وعن الإحترام المتبادل ( الحذر) مع بريطانيا
وعن الريادة التاريخية الحتمية لمصر في المحيط العربي
وعن دورها الفاعل في إنشاء منتدي غاز المتوسط..
وهنا يلتقط شياطين السياسة الدولية أنفاسهم وقد تكاثرت من حولهم الملفات وأغرقتهم التفاصيل عن تنامي الدور المصري فيسألون:
هل نسمح لمصر ان تتبوأ دورها التقليدي في مفرق الشرق فتمسح ما تبقى من نظريتي الفوضى الخلاقة والشرق الأوسط الجديد؟
طبعا لا
إذن وبمنتهى الهدوء …نسأل : ماذا هم فاعلون بأدواتهم ومؤمراتهم وعناصرهم التي جهزوها ورعوها فكبرت بين أيديهم دولا وأفرادا وجماعات؟ وعلى أي شيء كانوا يراهنون في السنوات الماضية؟
أدواتهم في السابق كانت مستترة يلوحون بها على استحياء في التفاوض فقط عند الابتزاز أما الآن فهي أدوات معروفة ومكشوفة ومستهلكة وأصبحت “عيني عينك” مثلما يحدث الآن في العراق وسوريا وليبيا والصومال واليمن وتونس ولبنان وأحيانا في سيناء …. وما يستجد…
الهدف الأساسي الباقي لهم بعد كل ما يدور الآن في المنطقة هو ضرب مصر وصرف أنظارها عن تقوية ذاتها لكي تستهلك مواردها في حروب محلية وإقليمية لا هدف من ورائها إلا مصلحة أعدائها التقليديين والاستفادة إلى الحد الأقصى من موارد الطاقة العربية في البر والبحر وتوسيع رقعة النفوذ الغربي في بلاد العرب بصناعة الجهل والفتنة والفقر والمرض والفوضى .
ولنأخذ أثيوبيا وليبيا كمثالين لتوصيف الحالة الراهنة رغم ما يبدو من حالة الهدوء المصري النسبي حولهما … فرغم طبول الحرب التي كانت تدق إعلاميا هنا وهناك والتي سببت حالة من الخوف والهلع أصابت الكثيرين منا، فإن تطور هاتين الأزمتين (بصرف النظر عن حالتي الصمت والنسيان الآن) فأنا شخصيا لا أرى أي مبرر للمبالغة في هذا الخوف، وإن كان الخوف من المجهول مشروعا .. فأين المجهول في الحالتين حتى نخافه؟
فمع افتراض أسوأ الاحتمالات في الحالة الأولى وهي تمادي أثيوبيا في صلفها والإستمرار في تخزين مياه السد للتأثير على حصة مصر التاريخية من المياه، ثم توسيع دائرة الهجوم المتبادل للمليشيات لتنتقل من طرابلس إلى سرت،
أولا وبدون الدخول في تفاصيل فنية أو دبلوماسية معقدة فإن خزان سد النهضة له طاقة استيعابية محدودة من المياه لا تستوعب أكثر من موسم واحد أو إثنين على الأكثر ومخزون بحيرة ناصر سيعوضنا هذا الموسم عن أي عجز محتمل وتبقي المشكلة عند أثيوبيا في الموسم التالي عندما تتدفق نفس كمية المياه التي بالقطع لن يستوعبها الخزان وعندئذ ستضطر أثيوبيا صاغرة إلى فتح السد لتصريفها حتى لا تصبح خطرا على أراضيها وعلى جسم السد ذاته.. إلا إذا شرعت أثيوبيا في بناء عدد من السدود الأخرى تخفف إندفاع فيضانات ” تانا ” إلى سد النهضة وهذا عمليا واقتصاديا ليس منظورا وإن حدث فسيكون بمثابة إعلان الحرب على مصر . ومصر عندئذ سيكون ردها حاسما وموجعا ومشروعا.
أما بالنسبة للصراع حول ليبيا فمصر أعلنت موقفها بمنطق (السلم الرادع) وكشفت في أكثر من مناسبة عن جاهزية جيشها وحجم عتاده .. وهو جيش يعلم الجميع عقيدته وفكر رجاله .. ومن هنا فالمسألة بالنسبة لمن تساوره أحلام اليقظة وكل من غرر به ودفعه إلى أتون حرب لا يعرف نهايتها هي مغامرة انتحارية وأن الوصول إلى الغايات المرسومة سلفا ليس مجرد فسحة على الرمال في أرض سهلة مكشوفة .. ولا شك في أنه وأنهم قد أعادوا النظر في خططهم العنترية وقد استوعبوا مكمن الخطر قبل وقوعه .. وان مصر تتابع بعناية ما يحدث في طرابلس لكنها لن تسمح بتوسيع دائرة القتال بالقرب منها.
وهنا لابد من القول إن مصر بموقفها الواضح وتحذيرها الرادع قد سجلت نصرا سياسيا وعسكريا سمع العالم كله صداه قبل أن تدخل في أي حرب وهذا إنجاز معنوي عظيم أن تجبر خصمك على الصمت وتدفعه إلى إعادة حساباته مرغما ولو إلى حين.
وبدون أي تحيز أو فكرة شوفينية أقول إن الذين يكيدون لمصر كيدا يعرفون جيدا أن الشعب المصري حالة خاصة وأصيلة تتفتت أمامها كل الخطط والنظريات خصوصا عندما يتعلق الأمر بأرض مصر وأمنها وسيادتها وبهوية شعبها وعرضه وكرامته.. وأن كل طوائف هذا الشعب حتى (بعض) المختلفين من أبنائه سوف يقفون صفا واحدا وراء جيشهم في وجه أي طامع أو متآمر أو دخيل..
هذا ليس كلاما نظريا ولكنه نتاج تجربة طويلة عشناها في دهاليز المجتمع الدولي لأكثر من ربع قرن عرفنا خلالها ماذا تعني مصر القوية لنا ولهم. وليس ذنبنا أن تأخذهم العزة بالإثم أحيانا فينسون من نحن …. ومن هم.