شتاء آخر على محطة القطار
بقلم / سلوى مرجان
الأمطار تتسابق لترتطم بالأرض، يبارك الرعد السباق بصياح يصم الآذان، تجري المياه في ممرات المطر لتعبئة الخزانات الأرضية، أضواء المحطة تبدو كضوء شمعة بالكاد تنير قطرها، يقف أحد أفراد الأمن داخل صندوقه الزجاجي، يسترعي انتباهه امرأة تقترب منه تجر حقيبتها بيد وبالأخرى تمسك بالمظلة، تنقر المرأة على الزجاج فيرفع النافذة ويبتسم قائلاً: مرحبا آنستي.
تبادله الابتسامة وهي تسأل: على أي رصيف سيقف القطار رقم ثلاثة وعشرين؟
يخبرها آسفا : يبدو أنك لم تقرأي اللوحة الخارجية، سيتأخر القطار لساعتين.
لوهلة وكأنها غابت عن الدنيا، ثم عادت بسرعة وحركت رأسها متفهمة وابتعدت.
نظرت حولها للمحطة شبه الخالية في هذا الوقت المتأخر والطقس شديد البرودة، وقررت أن تنتظر داخل مقهى وتتناول شرابا ساخنا، لم تفكر كثيرا ودخلت أول مكان كان أمامها، وأغمضت عينيها أمتنانا لهذا الدفء المنبعث من مكيف الهواء، أغلقت مظلتها وخلعت المعطف ووضعته فوق الحقيبة وجلست في زاوية بجوار النافذة. لم يمهلها النادل سوى دقيقتين ووقف أمامها مبتسما وهو يقول: الجو شديد البرودة لدينا كعك ساخن مغطى بالشوكولاته، وأيضا مشروب الكاكاو اللذيذ.
نظرت له نظرة خاوية من أي تعبير وقالت بصوت هادئ: بكل أسف لا أحب الشوكولاته ولا الكاكاو، إذا كان لديك زنجبيل أكن شاكرة.
لدينا بالطبع، ولدينا أيضاً كعك بالقرفة سيعجبك كثيرا.
أشكرك لا أحب الكعك، سأكتفي بالمشروب، ومعه جريدة اليوم.
انصرف النادل بعد أن فقد الأمل في إقناعها بتناول الكعك، أما هي فأسندت ظهرها للخلف وهمست ( مروان), ثم سقطت دمعة رغماً عنها فمسحتها بسرعة وهي تطمئن نفسها بأن اللقاء اقترب، فلقد أخبرها الرجل الذي اتصل بها منذ أسبوع أن أخاها سيكون بانتظارها في ليلة رأس السنة داخل المحطة، مع دقات الواحدة بعد منتصف الليل، وإذا تأخر فعليها أن تركب قطار رقم ثلاثة وعشرين، وهو دائما ما يتأخر عن موعده.
لم تر مروان منذ عامين، منذ تلك الليلة التي دق فيها صديقه الباب وأخبره أن يهرب بسرعة لأنهم يبحثون عنه، لم يكن لديها الوقت الكافي لتسأله ماذا سيفعل، أو لتعطه معطفا ثقيلا يجابه به هذا البرد القارس، مروان يكبرها بعام واحد، كان هذا العام كفيلا بأن يجعله أبا لها ودفء وأمان، ولكنه فجأة تركها دون كلمة دون أن يخبرها كيف ستتصرف، كيف ستشعل قمرا فضيا في ليل وحشتها، لقد غاب وأخذ معه الشمس وتركها تتخبط في ليل لا نهار له، لا اتصالا هاتفيا يروي ظمأ اشتياقها له، ولا خطاباً تلمسه بأناملها فتطمئنها حروفه أنه كان هناك يكتب مطمئنا، في العام الماضي جاءها نفس الاتصال وأخبرها صديقه بنفس الرسالة( انتظريه على محطة القطار ليلة رأس السنة تمام الواحدة بعد منتصف الليل، وإذا تأخر استقلي قطار رقم ثلاثة وعشرين وهو دائما ما يتأخر).
وها هي تذهب للموعد في شتاء آخر على محطة القطار، تنتظر وقلبها يحدثها بأنه لن يأتي ولكنها مدفوعة بالأمل متشبثة بلقاء هو كل حياتها.
احتست الزنجبيل على مهل وهي تراقب عقارب ساعة المحطة، لم يخبرها أين تنتظر، قال لها أنه سيجدها في أي مكان، والآن تتبقى دقيقة واحدة، فلم تستطع الانتظار، وقفت بسرعة وتركت النقود والجريدة وتحركت خارج المقهى لتقف تحت الأمطار حتى لا ترهقه بعناء البحث عنها.
مرت اللحظات ثقيلة وهي تلتهم المحطة بعينيها وتحاول التدقيق في كل ركن رغم السيول التي لا تتوقف، وبعدما مرت ربع ساعة لم تستطع كبح جماح الألم الذي اعتصر قلبها، انهمرت دموعها وهي تهمس ( متى اللقاء يا مروان، متى اللقاء ؟!).
جلست على مقعد تعلوه مظلة كبيرة وأجهشت ببكاء هستيري، لم يقطعه سوى المذياع الذي أعلن عن دخول القطار رقم ثلاثة وعشرين إلى الرصيف.
وقفت تنظر للقطار وسألت الله أن تلتقيه بداخله.
داخل القطار بحثت عن رقم مقعدها، فحمل العامل حقيبتها وطلب منها أن تتبعه، سارت خلفه حتى توقف أمام كابينة وفتحها، وكان بها رجل يمسك بصحيفة تخبئ وجهه، ولم يدفعه فضوله حتى كي يخفض الصحيفة ويرى رفيقته بالكابينة، وضع العامل حقيبتها فوق المقعد الوثير، ثم خرج وأغلق الباب خلفه، كانت متعبة للغاية فأسندت رأسها إلى حائط القطار وأغمضت، شعرت بالحركة الثقيلة لرفيقها في الكابينة فتأكدت أنه رجل عجوز قبل أن يختلط الحلم بالحقيقة وتسمعه يفتح الباب ويتكلم مع آخر قائلاً: ألق بها في الخارج، هؤلاء الشباب لا فائدة منهم، فقط يثيرون المتاعب.
حاولت أن تصرخ به، لكنها لم تفعل، ثم ظهر أخوها أمامها واحتضنها بقوة فبكت بين ذراعيه وقالت: يا حبيبي لا طاقة لي للعيش بدونك.
لم ينطق مروان وعاد العجوز يقول: أين الشرطة ؟ أبلغهم بسرعة عن وجوده.
هنا صرخت (ليلة) وهي تشد أخاها ناحيتها بقوة: اتركه أيها الحقير، اتركه.
ففتحت عينيها على صرختها لتجد أمامها رجلاً أربعينيا ذا شعر مرتب ولحية صغيرة يرتدي نظارة وينظر إليها بدهشة، فاعتدلت في جلستها وسألته: هل كان صوتي عالياً ؟
هز رأسه وقال : لا، لكنك كنت تضربين أحدهم في الحلم.
شعرت بالخجل وقالت: أعتذر.
: لا بأس، سأخفض الضوء لتنعمي بنوم هادئ.
أمسكت بمعطفها ووضعته على ساقيها العاريتين قبل أن ترفعهما عن الأرض، أما رفيقها فقد أخفض الضوء وظل جالسا يتطلع إلى الخارج في صمت.
كان يشعر بالضيق لوجود رفيق له في الكابينة، ولكنه كان يعرف أن جميع القطارات مزدحمة في ليلة رأس السنة، حتى أنه لم يستطع أن يحجز في قطار النوم وهو المفضل لديه، كان كل ما يفكر به في تلك اللحظة، أن يصل في الموعد الذي حدده بنفسه لينهي تلك الصفقة التي أرهقت ذهنه لأكثر من شهرين، لم يكن (ريان) رجل أعمال فقط، ولكنه كان المثال الحق لمعنى جملة (كل عقله أرقام).
عندما استيقظت ليلة كان الصداع يسيطر على رأسها، اعتدلت وهي تنظر لرفيقها الذي ما زال مستيقظا، فسألته: ألم تنم؟
: لا.
: هل أزعجتك أثناء نومي.
: باستثناء شخيرك لم يزعجني شيء.
ضمت شفتيها بخجل وقالت: لا أعرف ماذا أقول، ولكن لحسن الحظ أنك لم تكن نائما.
رفع حاجبه بضيق وقال: هل حقا تصدقين ما تفوهت به.
وقفت تعدل ملابسها وترتب شعرها وهي تقول: نعم أصدقه، فلو كنت نائما لاستيقظت على صوتي وشعرت بالضيق، ولكن أنت بالفعل لم تنم، فما من شيء يضير.
نظر لها بضيق، ثم أمسك بجريدته وخرج من الكابينة.