هناء عبيد تكتب : يوميات في شيكاغو ” رحلة في قطار شيكاغو ج١ “
ظروف الحياة العصريّة فرضت علينا الخمول دون إرادتنا، حيث قلة الحركة خاصة عند أولئك الذين يستخدمون السيارة في تنقلاتهم، فالمسافات التي نمشيها لا تكاد تذكر، ووسائل التواصل الاجتماعي سيطرت على أوقاتنا، لدرجة أننا أصبحنا نؤدي واجباتنا الاجتماعية سواء للعزاء أو التهنئة عبر كلمات لا تكلفنا سوى حركات تقوم بها أيدينا دون عناء يذكر.
في فكرة مني للخروج عن المألوف والروتين القاتل والجمود، قررت اليوم التنقل من خلال وسائل المواصلات العادية وحاولت إقصاء كل المسؤوليات بعيدًا؛ لأتنزه في وسط مدينة شيكاغو، وبالتحديد في مكان يدعى (النيفي بير ) الذي كان مخصصًّا في زمن عابر للجيش ثم تم تحويله فيما بعد إلى مرفق سياحي، فهو يتمتع بموقع جاذب، ويطل على بحيرة متشغان الساحرة، كما أنه يقع وسط شيكاغو حيث الحياة والحركة والنشاط.
القطارات المخصصة للتنقل من مدن شيكاغو إلى وسطها ليست مريحة كما كنت أعتقد سابقًا، فهي قطارات تجارية مخصصة لنقل الموظفين إلى أعمالهم، فوسط مدينة شيكاغو مزدحم وليس من السهل إيجاد مصفات مجانية للسيارات فيه ، لذا فإن القطارات تعتبر وسيلة اقتصادية مناسبة لأصحاب العمل للوصول إلى أعمالهم من خلالها.
ربما أكثر الأمور إفادة في التنقل عبر وسائل المواصلات العامة هو؛ إمكانية التخلي عن وسائل التواصل الاجتماعي التي لا نستطيع تجنبها حتى ونحن منشغلون في السياقة.. وهذا بدوره يعطينا الفرصة للاندماج في ما يدور حولنا ويعرفنا على أحوال الدنيا والناس بعيدًا عن الميديا التي سيطرت على حياتنا.. فما بالكم إذا كانت الرحلة وسط مدينة شيكاغو التي تمتاز بتعدد الجنسيات فيها، لا بد وأن تكون الحكايا التي نقتنصها مختلفة ومثرية ومتنوعة.
بدأت رحلتي بركوب الباص أولًا، جلست على أول مقعد صادفته، امتلأ الباص بالركاب ولم يتبق فيه أي مقعد فارغ. بدأت حكايا الناس تتراشق في طريقها لي.
حينما تطرق مسامعك قصة بكاملها وأنت تجلس في الباص أو القطار أو حين تتمشى في وسط الزحام في شيكاغو، فإن ذلك لا يعد تطفلًا منك، إذ أنّ معظم سكان شيكاغو يتحدثون بصوت مرتفع مسموع، أي قد تستمع الى قصة حياة شخص ما بحذافيرها حتى لو كان يجلس في المقاعد الأخيرة من الحافلة بينما أنت تجلس في مقدمتها.
توقف الباص في إحدى المحطات فصعدت سيدة تبدو في السبعين من عمرها، لم تجد مقعدًا لتجلس، اقترحت عليها أن تأخذ مكاني -باعتباري شابة مقارنة بعمرها-، لكنها رفضت بشدة، لم تكن ضعيفة البنية بل بدت قوية؛ رغم محاصرة التجاعيد لوجهها الذي قد يعطي انطباعًا خاطئًا بضعفها.
رؤية الناس التي نصادفها ومواقفهم قد تعصف بأفكارنا في محاور عدة، السيدة التي وقفت في الباص ورفضت اقتراحي لها بالجلوس مكاني ذهبت بذهني إلى أحوال العجزة في بلادنا الذين تُنْهَكُ قواهم قبل الأوان، فيصبحون بحاجة إلى مساعدة أبنائهم أو أحفادهم. فترى أي السبل أفضل؟! هل نعطيهم أكبر فرصة للاعتماد على أنفسهم أم نحيطهم برعايتنا المبالغ فيها فنرهق صحتهم قبل الأوان؛ هي حيرة نقع فيها جميعًا، فإن تخلينا عن مساعدة كبار السن وهم في صحتهم نعتبر جاحدين ومقصرين وإن ساعدناهم فاننا نساهم في فقد قوتهم وصحتهم قبل الأوان.
توقفت برهة عن التفكير فقد توقف الباص معلنًا عن وصولنا إلى المحطة التالية. سأكمل لاحقًا..انتظروني
إلى اللقاء.