
في زمن تتعرض فيه اللغة العربية لتآكل بصري ومعنوي، تأتي هذه التجربة الفنية لتؤكد أن الحرف العربي ما زال قادرًا على التنفّس، والتمدد، والتحوّل إلى فعل تشكيلي معاصر.
لوحات الفنانات نادية الزرلّي، منية عنّابي، دلندة دريرة، وفاطمة الشعبوني ، آمنة قرمازي ، سارة الجلولي و آمنة براهيم ، ألفة بنعودة و سهام قراندى نميسي لا تقدّم الخط العربي بوصفه تراثًا محفوظًا، بل ككائن حيّ، يُختبر، يُكسَر، ويُعاد تركيبه داخل فضاء اللوحة.
هذه الأعمال، المنجزة بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية، لا تحتفي باللغة من باب الاحتفال الشكلي، بل من باب المساءلة الجمالية: ماذا يبقى من الحرف حين يتحرر من الورق؟ وماذا يقول حين يصبح لونًا، مادة، وملمسًا؟
الحرف بين القداسة والمغامرة
ما يلفت النظر في هذه التجربة هو التوازن الدقيق بين احترام روح الخط العربي، والجرأة في التعامل معه.
نحن أمام حروف واضحة الانتماء، لكنها غير خاضعة للقياس المدرسي الصارم. الامتدادات الطويلة، التراكبات الكثيفة، والفراغات المحسوبة، كلها تشير إلى فهم داخلي لبنية الحرف، لا إلى تقليده.
يمكن تشبيه هذه المقاربة بعازف موسيقى كلاسيكية يعرف المقام جيدًا، ثم يسمح لنفسه بالارتجال دون أن يخرج عن الروح.
قراءة في التجارب الفردية
نادية زرلّي: الحرف ككتلة وقوة
في أعمال نادية زرلّي، يظهر الحرف العربي كثيفًا، ممتلئًا، يكاد يكون نحتًا على سطح اللوحة.
اللون الداكن، غالبًا الأسود، يقف بثبات فوق خلفيات مشغولة بالذهب أو الدرجات الترابية، ما يمنح العمل طابعًا وقورًا وقويًا في آن واحد.
الحرف هنا ليس للقراءة السريعة، بل للتأمل، كأن المشاهد مدعو للتوقّف لا للمرور.
منية عنّابي: الإيقاع والفراغ
تتعامل منية عنّابي مع الحرف بوصفه حركة.
هناك عناية واضحة بالإيقاع الداخلي، وبالعلاقة بين الامتلاء والفراغ. الحروف لا تزاحم بعضها، بل تتجاور بحس موسيقي، ما يجعل اللوحة أقرب إلى مقطوعة صامتة.
هذه الأعمال تذكّر بأن جمال الخط لا يكمن في الحرف وحده، بل في المسافة التي تفصله عن غيره.
دلندة دريرة: المادة بوصفها ذاكرة
تشتغل دلندة دريرة على السطح التشكيلي بوصفه سجلًّا زمنيًا.
استخدام الطبقات، والخامات، والملمس، يجعل الحرف يبدو كأنه منبثق من الذاكرة لا مرسومًا عليها.
هنا، اللغة العربية لا تظهر كنص، بل كأثر، كشيء مرّ من هنا وترك علامته.
فاطمة الشعبوني: الجرأة والاختزال
أما فاطمة الشعبوني، فتتجه نحو الاختزال الجريء.
حروف قليلة، مساحات محسوبة، وضربات واثقة. لا إفراط ولا تزيين زائد.
هذا الاقتصاد في العناصر يمنح العمل قوة صامتة، ويعيد للحرف العربي هيبته الأولى: أن يقول الكثير بالقليل.
اللغة العربية كفعل معاصر
ما يجمع هذه التجارب ليس الأسلوب، بل الرؤية.
جميع الفنانات يتعاملن مع اللغة العربية ككائن معاصر، قادر على الحوار مع اللوحة الحديثة، ومع الذائقة البصرية اليوم، دون أن يفقد جذوره.
هذه الأعمال تؤكد أن الحفاظ على اللغة لا يكون فقط بالكتب والقواعد، بل أيضًا بالصورة، باللون، وبالجرأة على إعادة تخيّلها.
كما حافظ المعماريون الكبار على روح العمارة التقليدية وهم يبنون بمواد حديثة، تحافظ هذه التجربة على روح الخط العربي وهي تدفعه إلى فضاءات جديدة.
وكما تتحول القصيدة الصوفية من نص إلى حالة، يتحول الحرف هنا من كتابة إلى حضور.
هذه التجربة ليست نهاية الطريق، بل بدايته.
قيمتها الحقيقية لا تكمن فقط في جمال الأعمال، بل في وعيها بدورها الثقافي.
إنها تذكير هادئ وقوي في آن واحد بأن اللغة العربية، حين تُسلَّم لأيدٍ واعية، لا تشيخ، بل تتجدد.
وذلك، في جوهره، هو الاحتفال الأصدق بها.














