900
900
مقالات

معطف الأمطار الدافئة

الحلقة رقم ٦

900
900

بقلم / سلوى مرجان

السعادة لا تطرق أبواب اللطيم

كنت أعتقد قديما أنني يتيمة، حتى قال لي معلم اللغة العربية أن من فقد أحد أبويه فهو يتيم، أما من فقد الاثنين فهو اللطيم.
عندما دلفت من البوابة وجدت الأم الصغيرة واقفة واضعة يدها في وسطها وتنظر لي بحنق، ألقيت عليها السلام ووضعت الظرف أمامها، فأمسكتني بقوة من ذراعي وصاحت بي:
– من هذا الذي أوصلك بالعربة؟
– إنه جد لورين.
ضحكت ضحكة قوية ساخرة، ثم نظرت لي بحدة وقالت:
– لورين جدها شاب ثلاثيني.
رفعت كتفي ولم أجد ردا، فجذبتني بقوة للداخل وصاحت تنادي أمي، فحضرت وخلفها بعض الفتيات الفضوليات.
نظرت لي أمي وقبل أن تسأل بادرتها الأم الصغيرة:
– الحلوة تركب العربة مع الرجال، ستحلق قريبا بنجاة.
اقتربت مني أمي ودون أن تسألني صفعتني صفعة قوية سمعت على آثارها صفير حاد في أذني، وقعت على الأرض من قوة الصفعة، ثم تحاملت وقمت، فوجدتها تقول:
– حقا من أين يأتيكم الشرف وأنتن من بطون الساقطات.
تكلمت بصعوبة من بين دموعي وقلت:
– أقسم أن الأمر ليس كذلك.
أمسكتني الأم الصغيرة من شعري وقالت:
– وهل أنا أكذب ؟!
– لا يا أمي ولكن هذا الرجل حقا جد لورين.
هنا اقتربت مني أمي وقالت بغضب شديد:
– لورين تلك التي طلبت مني من قبل أن تبقي معها ، هذا هو الأمر إذا.
– يا أمي…..
ثم نظرت للصندوق الذي معي وجذبته من يدي وفتحته، فأطلقت إحدى الفتيات صفير إعجاب بالمعطف، في حين جذبتني أمي من تلابيبي وطلبت من أمي الصغيرة الانصراف، لكنها استبقت الفتيات ليشاهدوا العرض.
أوقفتني أمام غرفتها ودخلت ولم تغب للحظات وعادت ومعها خرطوما كانت تضربنا به عندما كنا صغارا، صرخت من الفزع قبل أن تلمسني وقلت:
– أقسم لك أن الأمر ليس كما تظنين……
لكنها انهالت علي به ، وهي تصرخ بكل أنواع السباب والتجريح، وتقول أن المعطف هو ثمن الليالي التي قضيتها معه، وأنني قريبا سأنجب ابن الخطيئة كما فعلت أمي….. لكنني في النهاية لم أسمع شيئاً لأن صراخي غطى على أي كلام، ولم أحتمل الألم …….
بعد يومين بدأت أفيق رغم أن الجروح تملأ جسدي، ولكن الحمى أصابتني ورقدت في السرير أكثر من أسبوع.
وأخيرا نهضت وليتني لم أنهض، فقد فتحت شباك الغرفة لأنظر إلى الكون الذي منعتني من رؤيته، فإذا بي أرى أسامة يدخل من البوابة ويتحدث إلى الأم الصغيرة، لطمت كالمجنونة على خدي، ورأتني أختي هدى فسألتني عن الأمر، لكني لم أجد كلمات لأقولها، وجلست على السرير ممسكة ببطني من هول ما سيحدث لي، وبعد دقائق بدت كعمر طويل ، جاءت فتاة صغيرة وقالت أن أمي تريدني في مكتبها، نزلت وأنا في شدة الخوف، وعندما دخلت كانت تجلس وحدها، فبادرتني قائلة:
– لقد كان جد لورين يسأل عن سبب تأخرك عنهم هذا الأسبوع ، ولقد أخبرته أنك لن تذهبي مرة أخرى عندهم.
كنت أموت وأنا أسمع هذا الكلام ، لكنني لم أستطع الاعتراض، فعادت تقول:
– ستذهبين فقط عند فؤاد، ولو تأخرت عن موعد الرجوع ستنالين عقابك.
هززت رأسي موافقة ولم أعقب، فأشارت لي لأخرج.

مر أسبوعين كاملين قبل أن أخرج أخيرا ، ورغم كل تهديدات أمي ورغم خوفي الشديد منها إلا أنني كنت في انتظار أن أخرج لأذهب لبيت لورين ولو لدقائق، لا أعرف ماذا سأقول لهم ولكن من الواجب أن أعتذر وأقدم تبريرا.

أنهيت الدرس بسرعة على غير عادتي مع فؤاد، ولأول مرة أستعمل نقودي لكي أركب وأصل بسرعة إلى بيت لورين، كنت خائفة ألا تكفي النقود لكني فوجئت أن الأجرة كانت أقل كثيرا مما كنت أظن، فهذه أول مرة أركب فيها ولم أكن أعرف كم يكلف هذا الأمر.
وصلت للبيت وطرقت البوابة الخارجية ففتح لي العم رشيد ورحب بي قائلاً:
– أهلا أهلا معلمة كاميليا، يبدو أنك لا تعرفين.
سألته بدهشة:
– ما هو الذي لا أعرفه ؟
– لقد سافروا بالأمس إلى الصعيد.
يالله……شعرت بحزن رهيب سيطر علي حتى أني لم أسمع باقي كلام العم رشيد، تركته يثرثر ثم طلبت منه أن يحضر ورقة وقلما، وكتبت لهم رسالة

الغالية الجدة صفية، حبيبة قلبي لورين الصغيرة، السيد أسامة ……تحية لكم جميعا
لقد حضرت ولم أجدكم، كم كنت أود أن أراكم ولو لمرة أخيرة لأشرح لكم الأمر، وربما تكرهونني لما سأقول، ولكن أقدارنا وآباءنا وأمهاتنا ليس لنا يد فيهم، أنا لم أختر أن أكون بلا نسب، ما أصعب أن تحيا دون أن تعرف من هم سر وجودك في الحياة، دون أن يكون لك صدر يضمك إذا ضاقت الأرض بك، أم حقيقية تحبك لأنك ابنها وليس لتحلب خيرك، أب حقيقي يعطي ويصبح ظهراً وسندا ودفءا في ليالي الشتاء.
لقد تم عقابي وحرماني من الذهاب إليكم عندما رأوا السيد أسامة وهو يوصلني، وعلموا أنه أتي لي بمعطف، وبالطبع أخذوه مني.
أشكركم على الدفء والسعادة التي منحتمونيها ، كما أعتذر لكم عن عدم قدرتي على المجيء مرة أخرى.
كاميليا عبد الرحمن

تركت الرسالة للعم رشيد والدموع تترقرق من عيني، حتى أن الرجل لم يشأ أن أذهب هكذا وأصر على عمل كوب من الشاي لي، وجلست معه أمام الأخشاب المشتعلة وفي يدي كوب الشاي، وقلت لنفسي أن حياة العم رشيد أجمل من حياتي مئة مرة.

عدت إلى الدار ألتمس من الله الصبر والسلوان.

وبعد أيام ثقيلة دخلت هدى الغرفة وقالت لي :
– أمي تريدك فورا.
نزلت بسرعة، ودخلت مكتبها فسلمتني ورقة بها عنوان وقالت:
– حالا اذهبي إلى ذلك العنوان لطفل اسمه أسامة يحتاج لمعلمة وسيدفع ضعف المبلغ لأن مستواه الدراسي ضعيف جدا، وهناك أمر آخر لقد طلبوا مني أن ترتدي ملابس لائقة لأنهم من علية القوم، لذا سترتدين المعطف فقط أثناء الذهاب إليهم.
قلت لنفسي ” لم يخبروها كم سيدفعون؟!، لو لم يخبروها لاستطعت أن أخذ جزءا من حقي وأدخره لعلي أفر يوما من هذا السجن المقيت.
ارتديت المعطف فشعرت بالدفء وتذكرت لورين وجدتها وتمنيت لو أسمع عنهم ولو كلمة، أو أراهم صدفة في الطريق.

ذهبت للعنوان في الوقت المحدد وكان محلاً لبيع الملابس ولم يكن بيتا كما قيل لي، خرج من المحل شابا صغيرا وسألني:
– المعلمة كاميليا ؟
– نعم أنا.
فأشار لأحدهم بالداخل ، فنظرت فإذا به ……( أسامة) وعلى وجهه ابتسامة عريضة بادلته ضعفها كالبلهاء، فقال ضاحكاً: لن تغلبنا امرأة حيزبونة أبدا.

اترك تعليقك ...
900
900
زر الذهاب إلى الأعلى