مقالات

دكتورة نرمين توكل تكتب : التأهيل قبل التمكين: إستراتيجية صناعة القائد القدوة وصياغة دستور الرقي المهني



​إن المتأمل في مسيرة المؤسسات الكبرى التي استطاعت الصمود والنمو وسط العواصف الاقتصادية والإدارية، يدرك يقيناً أن سر نجاحها لم يكن في وفرة الموارد المادية فحسب، بل في فلسفة إدارية راسخة عنوانها “التأهيل قبل التمكين”. هذه القاعدة تعني باختصار أن منح السلطة لمن لا يملك فقه القيادة هو أقصر طريق نحو التفكك المؤسسي، فصناعة القائد لا تبدأ من لحظة جلوسه على الكرسي، بل من رحلة إعداد سلوكي ونفسي تسبق تقلده للمنصب، إيماناً بأن القائد الحقيقي هو من يقود النفوس والعقول قبل أن يدير الأوراق والمهام.

​تبدأ أولى ركائز هذا التأهيل من غرس مفهوم “القيادة بالنموذج”؛ فالقائد المؤهل هو من يُجسد قيم المرونة والاتزان الانفعالي في أحلك الظروف. التدريب المسبق يمنح القائد القدرة على استيعاب أخطاء مرؤوسيه وتحويلها إلى فرص للتعلم والابتكار بدلاً من جعلها منصات للتوبيخ والهدم النفسي. إن القائد الذي يتمتع بالذكاء العاطفي يدرك أن قوته لا تنبع من ترهيب الآخرين بسلطته، بل من قدرته على إلهامهم واحترام إنسانيتهم، مما يخلق بيئة من الولاء الوظيفي يتجاوز حدود العقد الرسمي إلى فضاء الشغف والعمل الدؤوب الذي لا يحتاج لرقابة خارجية.

​ويتصل هذا البناء السلوكي بضرورة إرساء “بروتوكول التعامل المهني” وضوابطه الصارمة كجزء لا يتجزأ من شخصية القائد. فمن الأخطاء الجسيمة التي تقع فيها القيادات غير المدربة هي خلط الأوراق بين العلاقات الشخصية والمسؤوليات المهنية، وهنا تبرز أهمية القاعدة الذهبية: “لكل مقام مقال”. إن لبيئة العمل قدسية وخصوصية تختلف تماماً عن فضاءات الأندية أو المجالس الودية؛ فهي مساحة يجب أن يسودها احترام الألقاب المتبادل وتقدير المراكز الوظيفية والألقاب العلميه لا من باب الطبقية أو الاستعلاء، بل من باب حفظ “الهيبة المؤسسية” والتوازن الإداري. إن الالتزام بالألقاب الرسمية .

، ولا سيما تقدير الألقاب العلمية الرفيعة ؛ ليس من قبيل الكبر او الاستعلاء، بل هو لمسة وفاء واعتراف بجدارة سنوات طوال استهلكها الباحث من عمره في صوامع العلم والبحث الجاد لخدمة مؤسسته وتطوير فكرها، وهو تقدير معنوي يبعث برسالة مفادها أن العلم والمجهود في هذه المنظومة لهما مكانة سامقة،علاوة على ذلك احترام التسلسل الوظيفي وذلك لتمثيل السياج الآمن الذي يحمي الاحترافية ويضمن اتخاذ قرارات مجردة من الهوى الشخصي، كما يوفر مسافة صحية تمنع انزلاق العمل نحو العشوائية التي تتبع دائماً التهاون في الرسميات المطلوبة.

​وكذلك أيضا ، فإن القائد الذي يتلقى تدريباً حقيقياً يدرك أن وظيفته المحورية هي هندسة “بيئة عمل تحفيزية” تجعل من الإبداع ثقافة يومية وممارسة مستمرة. هذه البيئة لا تُبنى بالشعارات الرنانة، بل تُبنى باحترام أدوار الجميع، بدءاً من أصغر موظف وصولاً إلى أعلى سلطة إدارية. إن إرساء لغة حوار تقوم على الإنصات النشط وتثمين الفكر المغاير يفتح آفاقاً واسعة للابتكار ويحول المؤسسة إلى خلية نحل تعمل بتناغم مذهل. فعندما يشعر الموظف بأن حديثه محل تقدير، وأن شخصيته تحترم حتى في لحظات الاختلاف المهني، فإنه يقدم أقصى ما لديه من طاقة، مما يعزز في النهاية من القيمة التنافسية للمنظمة ويجعلها بيئة جاذبة للكفاءات النادرة لا طاردة لها.

​وعلى النقيض من ذلك، تظل الحقيقة المرة التي يجب أن يعيها كل متصدر للمشهد هي أن “سقوط الاحترام والتقدير هو المسمار الأول في نعش الإدارة”. فإذا فُقد أدب الحوار بين القائد وفريقه، أو إذا تم تهميش الأدوار والاستهانة بجهود العاملين أثناء الحديث، يحدث خلل بنيوي وشرخ عميق في المنظومة الإدارية يصعب ترميمه. إن غياب التقدير المعنوي يؤدي حتماً إلى “الاحتراق الوظيفي” وتصلب قنوات التواصل، مما يحول بيئة العمل إلى ساحة للصراعات الجانبية التي تستنزف الطاقات في غير محلها.

​ختاماً، إن الاستثمار في “أنسنة الإدارة” وتدريب القيادات على فنون التعامل الإيجابي والالتزام ببروتوكولات الاحترام هو الاستثمار الحقيقي الذي يضمن استدامة النجاح. إننا بحاجة إلى قادة يدركون أن الرقي في التعامل هو أسمى أنواع السلطة، وأن احترام الأدوار هو الضمان الوحيد للتميز؛ فالقائد الذي يجمع بين حزم الإدارة ورقي الخلق هو وحده القادر على العبور بمؤسسته نحو آفاق الريادة، مؤكداً أن نجاح أي منظومة يبدأ دائماً من أدب التعامل وينتهي بعظمة الإنجاز.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى