مقالات

رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يؤكد أن التَّرَفَ داءٌ من أدواءِ النفوس وسُمٌّ في جسد المجتمعات

بقلم / المفكر العربي الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
و رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين

مما لاشك فيه أن الترف ليس مجرد سعة في العيش، بل هو حالة من البَطَر والإسراف والانغماس المُفرط في الشهوات والماديات، تُنسي العبدَ واجباته وتُبعده عن مقاصد الشريعة في إصلاح الفرد والمجتمع.

إنّ التَّرَفَ داءٌ من أدواءِ النفوس، وسُمٌّ في جسد المجتمعات، وما وقعَ في أمّةٍ إلا أفسدها، ولا فَشَا في قومٍ إلا أذلّهم، حتّى صار من أعظم أسباب الانهيار الحضاري التي ذكرها القرآن الكريم وبَيَّنَتْها السنّة المطهّرة.
وسنسعى في هذه المحاضرة إلى تفكيك مفهوم الترف، وإجلاء آثاره المدمرة، وتأصيل ذمه من النصوص الشرعية المُحكمة.

في بحث جامع لمعاني ذمِّ الترف، بين بيانٍ قرآنيٍّ مُهيمِن للترف، وتشريعٍ نبويٍّ راسخ، وتحليلٍ أدبيٍّ وفقهيٍّ يوضِّح آثارَه وأضراره.
أولًا: تعريفُ التَّرَف وحقيقته
● ١- الترف لغةً:
هو التنعمُ والإفراط في النعمة، والتوسعةُ في العيش،والمبالغة في طلب اللذات والملاذِّ، من غير حاجة ولا ضرورة.
• يقال: تَرِفَ الرجلُ، أي تنعَّم .
• والمترف: هو المتنعم المتوسع في ملاذ الدنيا وشهواتها،
وقد قال العلماء عند تفسير قوله تعالى: ﴿مُتْرَفُوهَا﴾:
أي: أهلُ التنعم والسَّعة والرفاهية.
● ٢- الترف اصطلاحًا:
هو انغماسُ الإنسان في متاع الدنيا واسترسالُه في الشهوات حتى يخرُج عن حدّ الاعتدال، ويعتاد الزيادة في غير حاجة، ويستثقل معيشة البساطة، ويستنكِف من حياة الزهد والكفاية.
فالترف هو التجاوز المُفرط لحدود الاعتدال في استعمال نعم الله، والانشغال بالكماليات المُلهية عن الطاعات والواجبات، والغرور المُصاحب لغنى النفس، والبطر الذي يؤدي إلى الظلم والفساد والإفساد في الأرض.
● ٣- الفرق بين الرزق الحلال والترف المذموم:
– هناك فرق جوهري دقيق بين أن يُغدق الله على عبده من فضله ورزقه في حدود الشكر والاعتدال، وبين الترف المذموم الذي يودي بصاحبه.
• الرزق الحلال والنعيم المشروع:
– هو ما يتحقق فيه شكر النعمة، وأداء حق الله والعباد فيها، واستعمالها في طاعة الله والانتفاع المشروع بها دون إسراف أو تبذير. وهو أمر مُرغَّب فيه بشرط الاعتدال، فـ ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِىٓ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِۦ وَٱلطَّيِّبَٰتِ مِنَ ٱلرِّزْقِ ۚ﴾ (الأعراف: 32).
• الترف المذموم:
– هو النعيم المُقترن بـ البَطَر والاستكبار والتبذير، والتلهّي المُفضي إلى نسيان الآخرة ومصالح الأمة.
فالشريعة لم تحرِّم الغنى، بل حرَّمت ما يترتب عليه من سوء خلق وسوء تدبير.

⚫ ثانيًا : مظاهر الترف في وقتنا الحاضر:
– من مظاهر هذا الترف في وقتنا الحاضر: الإغراق في الكماليات بشكل عجيب، فعلى سبيل المثال:
• بعض الأسر تغير أثاث المنزل بشكل سنوي حتى لو كان بحالة جيدة، وتدفع في ذلك المبالغ الطائلة.
• قيام بعض الأسر بشراء المأكولات والمشروبات بشكل يومي من المطاعم الغالية الثمن من غير حاجة إلى ذلك.
• أن بعض النساء تقوم بتغيير ملابسها بشكل مستمر في كل مناسبة أو عرس، حتى لو كان هذا الثوب لم يستعمل إلا مرة واحدة، وتدفع في ذلك المبالغ الطائلة.
• سفر بعض الناس للسياحة سنويًا، ويدفعون في ذلك المبالغ الطائلة حتى لو كانت هذه المبالغ بالدين، وغير ذلك من مظاهر الترف.
إن الترف -يا عباد الله- دركات بعضها أسوأ من بعض ،وقد حذر الله من ذلك في قوله: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [الحديد:20].
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين محذّرًا: “فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تُبسَط الدنيا عليكم كما بُسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم”.
ومن هذا النوع التوسع في المآكل والمشارب والتفنن في إعداد الطعام، وكثرة الحديث عنه والتفاخر به، والله تعالى لم يحرّم علينا ذلك لكن كرهه لنا وحثّنا عن التنزه عن جميع ذلك والتعلق بنعيم لا يزول قال سبحانه: (وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ).
والنبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه كانوا يعيشون على كفاف العيش.
ومن كلام الحكماء:
كل العيش قد جربناه *** فوجدناه يكفي منه أدناه
– والشبع وملء البطن دائمًا يكسل عن العبادة، ويسبب عدم القدرة على صيام التطوع ويضعف الورع، ويقسي القلب، ويجلب كثرة النوم، وهو من الترف المضيّع للأوقات المنقّص للدرجات، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: “من أخذ الدنيا من وجوهها المباحة وأدى واجباتها وأمسك لنفسه الزائد على الواجب يتوسع به في التمتع بشهوات الدنيا فلا عقاب عليه إلا أنه ينقص من درجته في الآخرة بقدر توسعه في الدنيا”.
قال عمر -رضي الله عنه-: “لولا أن تنقص حسناتي لخالطتكم في لين عيشكم، ولكني سمعت الله عير قوم فقال: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا)”.

⚫ ثالثًا : الترف في ضوء القرآن الكريم .
– لقد ورد ذمّ الترف في القرآن في مواضع كثيرة، وبأساليب شديدة، تدلّ على خطورته، وأنه من أعظم أسباب الهلاك.
● ١- الترف سبب للهلاك العام.
قال تعالى:
﴿وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرۡیَةࣰ أَمَرۡنَا مُتۡرَفِیهَا فَفَسَقُوا۟ فِیهَا فَحَقَّ عَلَیۡهَا ٱلۡقَوۡلُ فَدَمَّرۡنَـٰهَا تَدۡمِیرࣰا﴾
(سورة الإسراء، الآية 16)
إن سُنة الله -عز وجل- أنه إذا قدّر لقرية هلاكا فإنها تأخذ بأسباب الهلاك فيعم الفسق والشر فتحق عليهم السنة الإلهية وينزل بهم الدمار بما كسبت أيديهم ويصيبه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى