مقالات

الدكتور منصور مالك يكتب: قونية — قلبُ المحبة وعاصمةُ السلام

تتشرف تركيا ببركةٍ عظيمةٍ وفضلٍ كبير، إذ إن أرضَ قونية هي موطنُ حضرةِ مولانا جلال الدين الروميؒ. فقونية ليست مجردَ مدينة، بل هي مركزٌ حيٌّ للمحبة، والحكمة، والتذكير الروحي. ومنذ أكثر من 753 عامًا، تحمل هذه الأرض رسالةً كونيةً تتجاوز الحدودَ واللغاتِ والأديانَ والحضارات.

تشهد صفحاتُ التاريخ أن قونية لم تكن مركزًا روحيًا فحسب، بل كانت أيضًا عاصمةَ دولةٍ وحضارةٍ عظيمة. ففي عهد السلاجقة، كانت قونية عاصمةَ سلطنةِ الروم لأكثر من مئتي عام، ومنها تشكّل في الأناضول القانونُ والعلمُ والعمارةُ والثقافة. ثم تحوّلت تلك الأسسُ الراسخة لاحقًا إلى الحضارةِ العثمانية التي استمرّت أكثر من ستة قرون، وحملت رسالةَ العدلِ والنظام إلى ثلاثِ قارات.

غير أنّ حقيقةً واحدةً ظلّت قائمةً فوق السلاطين، والإمبراطوريات، والجيوش:
مولانا الروميؒ ما زال حيًّا في قلوب البشر، قائدًا روحيًا للإنسانية عبر القرون.

شمسُ تبريزؒ — اللقاءُ والثورةُ الروحية

لفهم المقام الروحي السامي لمولانا الروميؒ، لا بدّ من ذكر حضرةِ شمسِ تبريزؒ. فلم يكن لقاؤهما لقاءً عاديًا، بل كان اتحادَ روحين بإرادةٍ إلهية. لقد صهر شمسؒ كنوزَ علم مولانا في نارِ العشق، وأخرجه من حدودِ الدرس والمنبر إلى آفاقِ عشقِ الله الواسعة.

علّم شمسؒ مولانا هذه الحقيقة:
العلمُ ما لم يتحوّل إلى عشقٍ يبقى حجابًا،
وإذا صار عشقًا أصبح حقيقة.

ولذلك، بعد شمسؒ، لم يعد مولانا الروميؒ عالمًا فحسب، بل صار معلّمَ المحبة للإنسانية.

من قونية، وجّه مولانا الروميؒ إلى الإنسانية رسالةً ما زال العالم أحوجَ ما يكون إليها اليوم:
المحبةُ أقوى من الخوف،
والرحمةُ أسمى من القوة،
والوحدةُ أفضل من الفرقة.

قونية لا تتكلم لغةَ الغلبة.
قونية تتكلم لغةَ القلب.

هنا تحوّل العلمُ إلى رحمة.
وهنا تزيّن القانونُ بالعدل.
وهنا احتضن الإيمانُ الإنسانيةَ جمعاء.

القبةُ الخضراء — رمزُ العشق

كلُّ زائرٍ لقونية ينجذب أوّلًا إلى القبةِ الخضراء الفريدة والشامخة فوق ضريح مولانا الروميؒ. وقد شيّد هذه القبةَ السلطانُ السلجوقي علاء الدين كيقباد، فأصبحت اليوم رمزًا للمحبةِ والعشقِ الرومي في قونية، بل وفي العالم أجمع.

وكذلك فإن قبعةَ الدراويش الطويلة (السِّكّة) ترمز إلى موتِ النفس وبقاءِ الروح، أمّا لباسُهم الأبيض فيرمز إلى الطهارة، والتسليم، والتطهير الروحي. وهذه الرموزُ تخاطب القلوبَ بصمتٍ عميق.

في السابع عشر من ديسمبر من كل عام، يجتمع العالم في قونية. ويجدّد هذا اللقاء رسالةَ المحبةِ والسلام التي أطلقها مولانا الروميؒ أمام الإنسانية. وتُعرف هذه الليلةُ المقدسة بـ شبِّ العُرس — ليلة الوصال، لا الفراق، واحتفالِ اللقاء بالمحبوبِ الحقيقي.

ومنذ 753 عامًا بلا انقطاع، تستقبل قونية في الفترة من 7 إلى 17 ديسمبر زوّارًا من أنحاء العالم، من عامة الناس، وكبار المسؤولين الحكوميين، والدبلوماسيين، والعلماء، والشخصيات المرموقة، والشعراء، والأدباء، والمفكرين، وأهل القلوب الحيّة.

إن هذا الاستمرارَ الروحي الفريد هو ثمرةُ الجهودِ المخلصة والدؤوبة لحكومةِ الجمهورية التركية، ولا سيما وزارةِ الثقافة والسياحة، والمؤسساتِ التابعة لها في قونية. والطريقةُ التي تُقام بها احتفالاتُ شبِّ العرس من حيث الوقار، والعمق، والإخلاص، والرقيّ الحضاري، تجعل كلَّ من يغادر قونية يحمل في قلبه شكرًا صادقًا وتقديرًا عميقًا لتركيا.

شكرٌ وتقديرٌ شخصي

في هذه المناسبة، أتقدّم بخالص الشكر والامتنان:
إلى معالي الوزير سعيد نوري،
وإلى فريقه الموقّر، ولا سيما السيدة بينار جاوش أوغلو (وزارة الثقافة والسياحة — أنقرة)،
والأستاذ أردوان أردوغموش (نائب مدير وزارة الثقافة والسياحة)،
ومعاونته السيدة دييغو،
وجميع العاملين في قونية،

على ما يبذلونه من جهودٍ مخلصة للحفاظ على هذا الإرث الروحي العظيم للإنسانية، بكل وقارٍ وتنظيمٍ وإخلاص.

إرثُ الرومي الحيّ — جيلًا بعد جيل

ويحمل الأمانةَ على وجه الخصوص مركزُ مولانا الدولي، وممثلو الجيل الثاني والعشرين من نسل مولانا الروميؒ المقيمين في قونية، الذين ظلّوا أوفياء لهذا النهج عبر القرون.

واليوم، تمثّل هذا الإرث السيدة أسين تشلبي، من نسل مولانا الروميؒ، التي تواصل حمل هذه المسؤولية بوقارٍ وحكمةٍ ووعي.

إن تركيا، بحفظها لهذه الأمانة، لا تصون تاريخها فحسب، بل تنقل إلى المستقبل تراثًا روحيًا حيًّا للإنسانية جمعاء.

الرسالةُ الصادرة من قونية واضحةٌ تمامًا —
ناعمةٌ في لغتها، قويةٌ في أثرها،
قديمةٌ في أصلها، وضروريةٌ للغاية لعصرنا:

قبل أن تتكلم الأسلحة، لتتّحد القلوب.
وحيث يفشل الخوف، فلتقد المحبة الطريق.
ولتتذكّر الإنسانية: نحن جميعًا عائلةٌ واحدة.

قونية ليست مدينةَ مولانا الروميؒ فحسب.
قونية هي ضميرُ الإنسانية.

ورسالتها خالدة:

طريقُ التقدّم هو المحبة.
وأقوى سلاحٍ هو المحبة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى