900
900
مقالات

المعطف

الحلقة رقم ٥

900
900

بقلم / سلوى مرجان

وتمر الأيام، وكم هي ثقيلة بدون الأحباب، لم تصبح يوما فيروز ذكرى، بل كانت رسالة وناقوسا.
كرهت الذهاب للطفل المدلل ؛ رغم أنهم أعطوني الزيادة التي طلبتها، أصبح معي نقود ما زلت أخبأها ولم أمسها أبداً، فماذا أفعل بها وقد طلبتها من أجل فيروز، والآن لا حاجة لي بها.
أخيراً قررت الاعتذار لوالدة الطفل، وأخبرتها أني لن أكمل معه، لكن الغريب أن الطفل نظر لي وأنا أتحدث إلى أمه، ثم صرخ قائلاً:
– حتى أنت لا تحبينني .
أجبت بسرعة مدافعة:
– أبدا، أنا فقط لدي ظروف.
وهنا تدخلت والدته وقالت:
– أنا أعلم أن المبلغ قليل، ولا يساوي جهودك، لذلك سأضاعفه.
وقفت الكلمات في حلقي ، وبحثت عن عذر أقوله، لكن الطفل اقترب مني وقال بأدب غير معهود عليه:
– سأذاكر دروسي يا معلمتي، أنا أعلم أنك غاضبة لذلك.
تنهدت وقلت:
– حسنا يا فؤاد، سأكمل معك بشرط أن تجتهد.
منذ ذلك اليوم أصبحت لي الكلمة العليا على فؤاد، فعندما تريد والدته منه شيئاً ، تطلب مني سرا أن أخبره بنفسي، فيطيعني دون أدنى تفكير.
أما بيت لورين الصغيرة فهو بيتي المحبب الذي أقضي فيه الأوقات المسروقة من عمري.
ذلك اليوم كان غائماً، لكن السماء خبأت المطر وبخلت به، شعرت هذا اليوم بالبرودة الشديدة ، ولم يسعفني المعطف في ذلك الطقس الرهيب، كنت أمني نفسي طوال الطريق لبيت لورين بالمدفأة والستائر المنسدلة القطيفة، حتى طرقت الباب وفتح لي رجل……… تلعثمت وأنا أنظر له، فبادرني قائلا:
– من المؤكد أنك المعلمة كاميليا.
أومأت برأسي ولم أرد، فأشار لي لأدخل وهو يقول:
– لورين ستنزل حالا.
دخلت الغرفة وبعد دقائق جاءت لورين وهي تلبس فستانا جميلاً لم أره من قبل، جلست أمامي بعدما حيتني، ثم أخرجت كتابها وبدأنا الدرس….. وبعد مرور نصف ساعة تقريباً سألتني:
– هل قابلت جدي؟
بدهشة قلت:
– جدك؟! هل لديك جد؟
– من فتح لك الباب، لقد عاد من أمريكا بالأمس.
– ولكن الذي فتح لي الباب كان صغيرا، أقصد لا يبدو…. أقصد …
– نعم نعم ، هو أخو جدتي وهو أصغر منها بثلاثين عاماً، فهم أخوة من الأب فقط.
– نعم فهمت، دعينا نكمل الدرس.
بعد دقائق دخلت الخادمة بمشروبي المفضل ( الكاكاو).
كعادتي شربته على مهل، وتمنيت لو تمطر السماء، فهي الحالة الوحيدة التي تسمح لي أمي فيها بالتأخير، ولم تخذلني السماء، فقبل أن أقوم بثوان كان صوت الرعد يهز البيت، سلمت على لورين وأنا أتمنى أن يستبقوني في هذا الدفء.
وعندما خرجت من الغرفة كانت الجدة تجلس مع ذلك الرجل الذي تدعي لورين أنه جدها، فأشارت الجدة لي لأجلس وقالت:
– لو استمرت الأمطار لن ترجعي لبيتك، يمكنك الاتصال من هنا بوالديك.
– لكن….
– اجلسي الآن فأسامة أتى لك بهدية جميلة.
ابتسم الرجل وتحدث بهدوء قائلاً:
– لقد اتصلتا بي هي ولورين وطلبا مني إحضار أجمل معطف لك من الخارج.
ثم أشار للورين فصعدت بسرعة وعادت بعد ثوان تحمل بيدها صندوقاً كبيراً، نظرت للرجل والجدة وقلت بصوت مرتعش:
– هذه أول مرة يهديني أحد هدية.
قالت الجدة:
– أنت يا كاميليا تستحقين الخير كله، أدب وخلق وتربية وأصل، أسعد الله والديك بك.
الكلمات نزلت على رأسي كالصاعقة، لكنني حاولت أن أبتسم وشكرتها، ثم تحدث المدعو أسامة:
– لورين وأختي لا يكفان عن الحديث عنك.
– شكرا.
لم أزد بعد ذلك حرفا، أخذ أسامة يتكلم ويحكي عن أمريكا والحياة هناك، والنظام والنظافة والتطور، والحرية، كانت حكاياته مبهرة، كنت مستمتعة بحديثه وتمنيت ألا يمضي الوقت، لكن الأمطار توقفت اخيرا فاضطررت للقيام.
وقف أسامة هو الآخر وقال:
– سوف أوصلك.
أجبت بفزع:
– لا لا أنا أستطيع أن أذهب وحدي.
تدخلت الجدة معترضة:
– الموضوع منتهي، جاء أسامة فهو المسؤول كل مرة عن عودتك.
استسلمت للأمر، ماذا سيحدث إن عرفوا أني ابنة حرام، لم يعد يهمني شيئا، لكنهم أتوا لي بمعطف جميل وأخاف أن يغيروا وجهة نظرهم بي……دارت كل الأفكار في رأسي طوال الطريق وأنا أشير له كيف يتحرك، كان ودودا جدا معي ويتحدث بأدب جم، حتى وصلنا للدار، فقلت له:
– هنا البيت أشكرك.
لم يبد عليه أي شيء، ظلت ابتسامته كما هي، وخرج ليحمل لي المعطف حتى الباب الخارجي، وودعني بكلمات رقيقة.

اترك تعليقك ...
900
900
زر الذهاب إلى الأعلى