900
900
مقالات

الفصل الأول “جاءت الرياح غربية”.. ” سلام “

900
900

بقلم / سلوى مرجان

وكأن الريح هاجرت وحملت معها كل ذكرياتنا الحلوة، الآن أمضي في شارعي الذي أسكن فيه منذ خمسة وثلاثين عاما ولا أسمع سوى وقع خطواتي.
الثانية ظهرا في يوم خريفي هو الوقت المثالي لسماع همس الريح؛ لكنها لم تحضر، ولم تبعث حتى مندوبا لها ليطمئنا على أن الطبيعة على ما يرام.
وصلت لحانة مستلزمات عيد الميلاد، وهناك كانت تجلس (ميري) السيدة المتجهمة دوماً؛ لكنها لن تعطيك سوى أفضل شيء وستضعه لك في حقيبة رائعة ذات ألوان بديعة.
اخترت شرائط من الساتان للزينة، وأوراق كوريشة سأحتاج حتما إليها، لكني لا أعلم ماذا سأصنع بها حتى الآن.
أحدهم دخل الحانة أيضاً، فقد سمعت صوت العصافير المُعلقة التي تضعها ميري خلف الباب فتصدر صوتا كلما دخل أحد.
قلت لنفسي وأنا أقترب من الشمع الملون: من المؤكد أن له استعمالا ولو لاحقاً، لذا فسوف أشتريه الآن.
سمعت صوت داليا بجواري تقول مازحة: أقسم أنك لست بحاجة لشيء، ولكنه هوس الشراء النسائي.
لم أنظر لها وتصنعت انشغالي بالشراء وأنا أهمس: عيد ميلاد أمي بعد يومين، أريد أن أدخل السعادة على قلبها.
مدت داليا يدها لي بعلبة كرات ملونة صغيرة وهي تقول: خذي هذه أيضاً.
نظرت للعلبة وسألتها بدهشة: ماذا سأصنع بها؟
أجابت وهي تهز كتفيها غير مبالية: لا شيء، وهل ما وضعتيه بالسلة ستستخدميه في عيد الميلاد! أنتِ تشترين فقط،مثلك مثل قاصف.
صدرت مني ضحكة عالية على الرغم مني، ثم وضعت يدي على فمي لأكتمها، وبعدما هدأت سألتها بدهشة: وهل يخرج قاصف ليشتري؟!
أجابت: سلام يا حبيبتي أنتِ تشترين بلا هدف، وقاصف يختبيء بلا سبب، أنتما غريبا الأطوار.
لثوان تذكرت قاصف وابتسمت، فتنهدت داليا نيابة عني وقالت بمكر: ذكرياتنا الحلوة تغزو عقلك الآن.
قلت: لا أفهم كيف يتسنى لرجل في مقام قاصف وقد بلغ مبلغا من العلم والفكر، أن يغلق على نفسه الأبواب منذ عشر سنوات، يعتزلنا وكأننا…..
ثم توقفت فجأة عن الكلام عندما رأيت قاصف يدخل أمامنا، ابتعدت عن داليا وتوجهت ناحيته، فلما رآني ابتسم تلك الابتسامة الرائعة وقال: كيف حالك سلام؟
قلت وأنا أحاول أن أطيل الحديث بقدر المستطاع: لست بحالة جيدة.
اتسعت ابتسامته وقال مداعبا: ربما بسبب سوء الأحوال الجوية
قلت وأنا أهز رأسي بدلال: بعدما افترقنا تنفست الصعداء، فأنت كائن لا يحتمل حقا، وقلت بكبرياء:
في العام القادم سأحب من هو أوسم منه، وأصدق منه، وأطول منه.
لذت بالصمت لثوان، فعاد يسأل: ثم؟
قلت وأنا أرفع حاجبي الأيسر: لا بأس، ما زال البحث مستمرا، فربما كنت أنت الأطول والأصدق والأوسم حتى هذه اللحظة فقط، لكن من المؤكد أن هناك إشعارا آخر.
تأملني لثوان وعيناه تحاصرني من كل الاتجاهات، وأخيراً نطق: لقد كان قرارك إن كنت تذكرين.
قلت بكبرياء : بالطبع أذكر، وهل أنا مجنونة كي أعزل نفسي عن الناس مثلك لسنوات، لا أقابلهم إلا مرة بالشهر.
ألقى علي نظرة غريبة، ثم تمتم: سعيد بإصرارك، وعدم ندمك على القرار.
نظرت له بغضب وقلت: إذن كنت تريدني أن أفعل ذلك، لم تكن تريدني معك كما ادعيت.
رفع كفه أمامي وهو يشير لي لأهدأ وقال: أنا ما زلت هنا، وما زلت أريدك، أنتِ من تصرين، فلا تقلبي الأوضاع.
لم أشعر بالهدوء أبدا بل ازداد غيظي وقلت: نعم بالطبع، ولكن هذا لا يجعلك تقول أنك سعيد بإصراري، تلك إهانة لي.
وقف معتدلا ثم انحنى بشكل مسرحي وقال: أعتذر عن الكلمة، أنا حزين لإصرارك.
هممت بالصراخ،لأنه يعاملني كطفلة، ولكن نظرات السيدة ميري خلفه التي كانت تراقبنا، جعلتني أرتبك فهمست بسرعة وأنا أبتعد عنه: لا تهمني سعادتك أو حزنك.

عدت إلى البيت أحمل خيبتي التي لا تفارقني منذ فراقنا، لم يكن صحيحا ما قاله عن كوني صاحبة قرار الفراق، فنحن النساء نقول أشياء كثيرة لا نعنيها، ليته أعاد الطلب فقط ولو عشر مرات، لكنه لم يفعل.
: سلام سلام.
صوت أمي يأتي من غرفة المعيشة، خلعت معطفي بسرعة وعلقته خلف الباب وذهبت إليها.
أمي لم تبلغ الستين بعد، لكنها بجمال فتاة عشرينية، وأناقة امرأة تزينت ليوم عرسها، لم يحدث أبدا ورأيت شعر أمي غير مرتب، أو رأيت أصابعها دون طلاء، لقد قال لها أبي وهو على فراش الموت: لا يحزنني الموت بقدر ما يحزنني ترك أجمل امرأة بالكون.
دخلت على أمي الغرفة، فوجدتها تخيط الستائر الجديدة، قلت لها : ستائرنا ما زالت جديدة يا أمي، وألوانها أجمل من هذي.
أجابت ولم ترفع عينيها عن الستائر : أخبرتك أن هذه الستائر أقمشتها لا تناسب هذا الشتاء أبداً، ألم تسمعي (لاهي) أول أمس وهو يقول أن هذا الشتاء سيكون شديد البرودة ورياحه عاتية.
تأففت لسيرة هذا الرجل الذي ورثت كراهيته من أبي وبعده قاصف، أما أمي فخلعت نظارتها وسألتني: ماذا فعل لكِ لاهي لكل تلك الكراهية؟!
قلت وأنا ألقي بجسدي على الأريكة المقابلة لها: لا أرتاح له.
قالت بسخرية: هكذا إذن يكون حكمك على الناس، وأين دليلك العقلي أيتها الراشدة؟
قلت بضيق: أي دليل؟ هذا الرجل شؤم، أول عاركة بينك وبين أبي كان سببها، عندما سكن بشارعنا ولم يكن يكف عن النظر إليك، ولم يكن يهتم لسباب أبي له، وكأنه عديم الأحساس، حتى صباح اليوم الذي مات فيه أبي، جاء بمنتهى البرود وسأل إن كنا نريده أن يصحب أبي للمشفى، كائن سمج وقذر.
عادت أمي تخيط الستائر وهي تقول: إنسان خدوم، أنت مجنونة مثل أبيك ولا تقدرين الناس الشهمة.
رددت الكلمة بسخرية: الشهمة.
ثم قمت للمطبخ ووضعت الغداء على الطاولة الكبيرة، وبعدما فتحت الستائر رأيت جاري( حسن) يلوح لي وهو يرش حديقة بيته الملاصق لبيتنا، لوحت له بحماس، ثم فتحت الزجاج وقلت بصوت عال: سنتناول الغداء الآن، تعالى بعد ساعتين واشرب معنا الشاي.
قال وهو يشير لبطنه ويمسح عليها بطريقة مازحة: الشاي باللبن أرجوك ومعه شطيرة لحم.
أشحت له مازحة وأغلقت الزجاج.
توجهت لغرفة جدي وجدتي، طرقت الباب ولما سمعت صوت جدتي تقول: تعالي يا سلام.
فتحت ودخلت، كان جدي يجلس على عربته المتحركة يقرأ الصحيفة، بينما جدتي ترتب كعادتها الملابس في الخزانة، ترك جدي الصحيفة وسألني: هل أعددت لي حساء العدس الذي طلبته.
قلت وأنا أتحرك لأمسك بعربته وأدفعها لنخرج من الغرفة: نعم يا حبيبي، طلباتك أوامر لي.
تناولنا الغداء سويا، وجاء حسن بعدها وجلس معنا قليلا، ولاعب جدي الطاولة.
وحوالي التاسعة مساء دخل الجميع غرفتهم، أما أنا فوقفت بالمطبخ أحضر كوب اللبن بالشوكولا، وهو مشروبي المفضل، كانت الستائر ما زالت مفتوحة لكن الظلام كان يحتل الحديقة الصغيرة بالخارج، فلا ترى غير شبح الشجرة الكبيرة.
قبل أن يرتفع اللبن، دق الهاتف فتركت اللبن بسرعة وذهبت لأجيب قبل أن ييقظ صوته أمي، على الناحية الأخرى لم أتلق إجابة، سألت أكثر من مرة : من المتحدث.
ولكن صوت أنفاس يأتيني بلا إجابة.
لوهلة شعرت وكأن هذه الأنفاس بجواري، فالتفت يميني بسرعة، ولكني عدت لعقلي وأغلقت الخط ونزعت مكبس الهاتف.
عدت للمطبخ بسرعة، لكني وجدت اللبن مسكوب فوق الموقد ولم يتبق منه شيء.
قبل أن أقوم بعملية التنظيف سمعت أمي تصيح: لا.
جريت لغرفتها وفتحت الباب، فوجدتها نائمة، فهممت بالخروج، لكنها استوقفتني قائلة: قلت لكِ أريد النوم.
نظرت لها بدهشة واقتربت متسائلة: هل هناك مكروه يا أمي؟
أزاحت الغطاء ونظرت لي بغيظ وقالت بصوتها الرقيق : ماذا دهاك اليوم يا سلام؟ ثلاث مرات تفتحين الباب، وأقول لك اتركيني، وتسأليني أريد شيئا وأقول لا، فماذا تريدين؟!
رفعت حاجبي وقد أدركت أن أمي كانت تحلم، فقلت بهدوء: حسناً سأخلد للنوم ولن أزعجك.
ثم خرجت وأغلقت الباب خلفي.
سمعت طرقا على زجاج نافذة المطبخ، فاقتربت ببطء، حتى ألصقت وجهي بالزجاج ولم أر شيئاً، أما الدق فلم يتوقف، فأدرت ظهري لأحضر الكشاف، وبمجرد ابتعادي خطوة واحدة،. انفتح الزجاج بقوة بشكل مفاجئ، ودخلت ريح قوية بسرعة وكأنما تحتل البيت، كانت الريح تصفر بصورة مفزعة وعالية، لم أستطع إغلاق الزجاج، لأني كنت أسد أذني بيدي وأغطي وجهي، بينما قلبي يدق بقوة من تلك المفاجأة التي تحدث لأول مرة منذ سنوات، لقد أتت الريح أخيراً، وصدق لاهي.
بعد وقت لم أحسبه، سكنت الريح، فجريت بسرعة أغلق النافذة بإحكام، وأسدل الستائر.
وبعدما انهيت الأمر، نظرت للبيت وصرخت، نعم صرخت وصرخت، لقد كان رجالا يجلسون هناك بعيدا بوجوه محترقة، يحملقون بي، لقد دخلوا مع الريح…….
استيقظت في الصباح على يد أمي تهزني، فصرخت بوجهها من الفزع، فسألتني بدهشة: كابوس؟
هززت رأسي وقلت: لا أعلم، وكأنه حقيقة.
جلست بجواري وربتت على كفي بحنان وقالت: نجوت من غضبي.
نطرت لها بعجب وسألت : لماذا؟
أجابت وهي تشير للخارج: تركتِ زجاج المطبخ مفتوح، واحتلت الأتربة البيت.
قلت بحزم: بل أغلقتها.
هزت رأسها وأشارت لي لأقوم معها، ودخلنا المطبخ، فوجدت على الموقد اللبن وقد جف، فهمست أمي: حتى الموقد لم تنظفيه.
قلت بدهشة: لا أذكر شيئاً.
أومأت برأسها وقالت: حالتك غريبة منذ الأمس، صدق لاهي عندما قال لي: ابنتك صغيرة ستترك البيت للريح.
استفزني الكلام بشدة فقلت : أي ريح؟ لقد هجرت الريح البلاد منذ أعوام.
رفعت أمي حاجبيها وقالت ساخرة: حقا؟! ومن الذي دمر البيت بكل تلك الأتربة إذن؟ لقد عادت الريح يا سلام.
سلوى مرجان

اترك تعليقك ...
900
900
زر الذهاب إلى الأعلى