بقلم / سلوى مرجان
في طريقي للورين الصغيرة يبصق الطريق خطواتي، أنا نجس يمشي على الأرض، أحمل خطيئة لا يدا لي فيها، ما ذنب الحجارة إن تعثرت بها والذنب على من وضعها، كيف أهرب من جريمة أنا ضحيتها الوحيدة، وإلى متى سأظل خائفة من عار لم أشترك يوما في صنعه.
فتحت لي لورين الباب بابتسامة عريضة وأمسكت بيدي وقبلتها، فسحبت يدي بسرعة وطلبت منها ألا تفعل ذلك مرة أخرى، انصاعت لأمري وجلست بأدب وأخرجت واجبها، قررت أن أجعلها سعيدة بسؤالي عن حالها كالمرة السابقة، فردت بفرحة:
– أنا بخير ما دمت بخير يا معلمتي.
مسحت على رأسها بسرعة ثم بدأنا الدرس، وأثناء ذلك قدمت لي الخادمة كوبا كبيرا من الكاكاو الساخن، اعتبرته كنزا عظيما واحتسيته على مهل خوفاً من أن ينتهي بسرعة، وفي نهاية الدرس شكت جدة لورين منها قائلة:
– إنها لا تذاكر سوى مادتك فقط، وتهمل باقي المواد، إنها لا تعرف كيف ترسم خريطة وطنها.
أجابت لورين بحزن:
– صعب جدا يا جدتي رسم الخرائط.
قلت مشفقة على الصغيرة:
– أستطيع أن أعلمك رسم الخرائط بسهولة، أنا ماهرة في ذلك.
اتسعت ابتسامة الجدة ولورين في وقت واحد، وقالت الأولى:
– أليس هذا تعب عليك يا ابنتي.
– لا يا أمي، ما دام الأمر سهلاً وأنا أتقنه فلا بأس.
وهنا جذبتني لورين لنجلس مرة أخرى وهي تهتف في سعادة:
– علميني الآن.
اعترضت جدتها:
– ليس الآن، هي ليست مستعدة.
جلست على الكرسي وقلت ببساطة:
– لا بأس أنا لست مشغولة اليوم.
وبالفعل جلست معها ساعة أخرى وعلمتها رسم الخريطة وأمسكت لأول مرة بألوان غالية لم أرها طوال عمري، فكنت ألون الخريطة كطفلة تلهو بألوانها، وودت لو أشكرهم على تلك السعادة….لكن المفاجأة بعدما أنهيت الدرس أن الجدة أعطتني ظرفين وأصرت أن أقبل، فما كان مني إلا أن قبلت وودعتهم بسعادة وجريت إلى الفندق الذي ذهبت إليه فيروز لأطمئن عليها، وفي طريقي فتحت الظرف الثاني ووجدت به نفس المبلغ، فبكيت من السعادة فهذه أول مرة في حياتي يكون معي مال، هذه أول مرة أمسك نقودا، ماذا أفعل بها؟ ماذا سأشتري؟! بالطبع طعام، سأملأ معدتي بالطعام والشراب، سأذهب لفيروز وأصحبها معي لنأكل سويا.
عندما وصلت إلى الفندق وسألت عنها اخبروني أنها تعمل في الحمامات، أفزعتني الكلمة لمجرد سماعها، وتوجهت إليها مسرعة لأرها منهمكة في مسح الأرض، لا يمكن أبدا، فيروز كانت أذكى طالبة في الميتم، إنها تخرجت بتقدير جيد جدا، إن أمي كانت تكتنزها لتجعلها تعمل في أفضل مكان حتى تحلبها كما ينبغي.
همست والدموع تخنقني:
– فيروز ، ماذا تفعلين ؟
نظرت لي بيأس وقالت:
– كما ترين يا كاميليا.
– ولكنك أخبرتيه أنك خريجة جامعية.
– نعم، ولقد عرف في ظرف ساعة تاريخي كاملاً، ولقد اتصل بأمي وأوصته بي خيرا، فأخبرني أن من مثلي لا مكان لها سوى في الحمامات لكسب العيش، إما يتركني في الشارع بلا مأوى ولا طعام.
– ولكن يا فيروز…..
– ولكن ماذا ؟! أين سأذهب في ذلك البرد اللعين؟ هل أنام في سلة القمامة كما حدث لي وبال الكلب فوقي؟!
– فيروز أنت تستطيعين عمل شيء أفضل.
– كفى يا كاميليا وعودي إلى الدار قبل أن تعاقبك أمي.
أمسكت بذراعها وقلت :
– لقد جئت لأصحبك معي لنأكل، أنا معي نقود.
ثم أخرجتها من جيبي لتراها، فنظرت لي بخوف وسألتني:
– من أين لك بها؟
– لا تخافي، إنها زيادة من جدة لورين.
أخذتني بين ذراعيها فشعرت بفرحة كبيرة، ففيروز قوية وتشعر معها بالأمان.
عدت للدار ولم أشتر شيئاً، وخبأت المال ونمت، أجمل يوم نمت فيه، كنت أشعر بالقوة والاستغناء، إن للمال سحراً عجيباً ، مجرد وجوده جعلني أشعر بالشبع، لا أصدق أني لم أكمل وجبتي التي لا تكفي طفلاً ، حتى أمي نظرت إلى طبقي وسألتني بريبة:
– لماذا لم تكملي طعامك؟
– معدتي تؤلمني يا أمي.
– لماذا ؟ هل أكلت بالخارج ؟
– وهل معي نقود؟
– لا تجيبي عن سؤالي بسؤال.
– قدمت لي جدة لورين مشروبا.
رفعت حاجبها كعادتها وسألت بخبث:
– مشروبا فقط؟
– نعم.
تركتني وهي ترمقني بنظرات حادة، لكن لا يهم أبداً.
كنت أمر كل يوم بفيروز وأجلس معها قليلاً، حتى جاء يوم ومررت بها فوجدتها في حالة سيئة، جلسنا على مقعد في الحمام وسألتها: ما الأمر؟
: السيد يريدني؟
: ما معنى يريدك؟
: يريدني كامرأة.
: لا أفهم.
: قال أنه سيكون شرفا لي أن ينام معي، فأنا بلا أهل ولا أصل.
: ربما يريد أن يتزوجك.
أطلقت ضحكة عالية وبدت المرارة في صوتها وهي تقول:
– يتزوج من ؟! لقد رفض أن يجعلني أعمل بوظيفة تليق بشهادتي، والآن هو يراني كأمي التي أنجبتني، فتاة رخيصة ينام معها ولا بأس إن حملت، فمن المؤكد أن ابنتي سوف أضعها في الملجأ هي الأخرى.
– لا تقولي ذلك يا فيروز، أنت فتاة طاهرة.
نظرت لبعيد وتمتمت كمن تكلم نفسها:
– ماذا سأفعل؟ إنه سيطلبني الليلة في الغرفة، وإن لم أفعل سيلقي بي في الشارع.
فكرت في حل لكنني لم أجد، فجلسنا صامتتين، وأخيرا ربتت على كتفي وقالت:
– اذهبي الآن حتى لا تتأخري.
– وأنت ماذا ستفعلين؟
– غداً ستعرفين..
وليته لم يأت الغد……..ليتني مت قبل أن أعرف…… ، ليتها لم تعارض أمي، ليتها لم تنطق الحقيقة، ليتها لم تولد، ليتها ظلت ولو لليلة واحدة حتى أشبع منها، ليتها لم تلق بنفسها من فوق سطح الفندق.