رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن فقه يوم عرفة
بقلم / المفكر العربي الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
مما لاشك فيه أن من عبر الحج العظيمة ومواقفه المؤثرة غاية التأثير ذلكم الجمع العظيم والموقف المبارك الذي شهده جميع الحجاج يوم الجمعة الماضي في يوم عرفة في أرض عرفة ؛ حيث وقفوا جميعا ملبين ومبتهلين إلى الله جلّ وعلا، يرجون رحمته ويخافون عذابه ويسألونه من فضله العظيم في أعظم تجمع إسلامي يُشهَد .
وهذا الاجتماع الكبير يذكِّر المسلمين عامةً بالموقف الأكبر يوم القيامة الذي يلتقي فيه الأولون والآخرون ينتظرون فصل القضاء ليصيروا إلى منازلهم إما إلى نعيمٍ مقيمٍ أو إلى عذابٍ أليم ؛ يوم العرض على الله، يقول الله تعالى: ﴿ وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا﴾ [الكهف:٤٨] , ويقول جلّ وعلا : ﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ﴾ [الحاقة:١٨] , ففي ذلك اليوم العظيم يجمع الله جميع العباد كما قال سبحانه وتعالى : ﴿ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ [النساء:٨٧] , وقال الله تعالى : ﴿ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ﴾ [التغابن:٩] ، وقال تعالى: ﴿ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ﴾ [هود:١٠٣] .
ويستوي في هذا الجمع الأولون والآخرون ؛ فالكل مجموع إلى ذلك الميقات العظيم : ﴿ قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾ [الواقعة:٤٩-٥٠] ولن يتخلَّف عن هذا الجمع أحد؛ من هلكوا في أجواء الفضاء ، ومن ضلوا في أعماق الأرض , ومن أكلتهم الطيور والسباع ، الكل سيُجمَع ولا مفرَّ قال الله تعالى: ﴿ وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا﴾ [الكهف:٤٧] , وقال سبحانه وتعالى: ﴿ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة:١٤٨] ، وقال سبحانه : ﴿ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾ [مريم:٩٣-٩٥] , وسيُجمعون على أرض غير هذه الأرض ، قال الله تعالى: ﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [إبراهيم:٤٨] ، وقد بيَّن لنا الرسول صلى الله عليه وسلم صفة هذه الأرض التي يُجمع عليها الناس ، ففي صحيحي البخاري ومسلم عن سهل بن سعد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أَرْضٍ بَيْضَاءَ عَفْرَاءَ كَقُرْصَةِ النَّقِيِّ لَيْسَ فِيهَا عَلَمٌ لِأَحَدٍ )) ؛ أي على أرض مستوية لا ارتفاع فيها ولا انخفاض ولا جبالَ ولا صخور وليس فيها علامةُ سكنى أو بناء .
ويحشرون على تلك الأرض حفاةً لا نعال عليهم ، عراةً لا لباس عليهم ، غرلاً أي غير مختونين ، ففي صحيحي البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا ثُمَّ قَرَأَ: ﴿ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء:١٠٤] )) , وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها لما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (( يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا )) , قالت : يَا رَسُولَ اللَّهِ النِّسَاءُ وَالرِّجَالُ جَمِيعًا يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ؟ قَالَ (( يَا عَائِشَةُ الْأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ )) .
عباد الله : وفي ذلك اليوم تدنو الشمس من الخلائق حتى تكون منهم كمقدار ميل , فلا ظل ذلك اليوم إلا ظل عرش الرحمن ، فمن مستظلٍّ بظل العرش ، ومن مُضْح بحرِّ الشمس قد صهرته واشتد فيها كربه وأقلقته ، وقد ازدحمت الأمم وتضايقت ودفع بعضها بعضا ، واختلفت الأقدام وانقطعت الأعناق من العطش ، قد اجتمع عليهم في موقفهم حر الشمس مع وهج أنفاسهم وتزاحم أجسامهم ففاض العرق منهم على وجه الأرض ، ثم علا أقدامهم على قدر مراتبهم ومنازلهم عند ربهم من السعادة والشقاء ؛ فمنهم من يبلغ العرق منكبيه وحِقويه ، ومنهم إلى شحمة أذنيه ، ومنهم من قد ألجمه العرق إلجاما – نسأل الله العافية والسلامة – ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يَعْرَقُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُمْ فِي الْأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا وَيُلْجِمُهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ آذَانَهُمْ )) رواه البخاري . وعن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْخَلْقِ حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا ، قَالَ وَأَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ )) .
عباد الله : ويكون وقوفهم في يوم مقداره خمسون ألف سنة ، قال الله تعالى: ﴿ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ [المعارج:٤] ، وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ ، كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ فَيَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ )) .
عباد الله : ويهوّن الله جلّ وعلا أمر الموقف على أهل الإيمان – نسأل الله الكريم من فضله – ففي المستدرك للحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يوم القيامة على المؤمن كقدر ما بين الظهر والعصر )) , ويُظلُّ الله سبحانه أهل الإيمان في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، ويقول جلّ وعلا في ذلك الموقف العظيم ((أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي ، الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي )) .
وفي ذلك اليوم يفزع الناس إلى الأنبياء يطلبون منهم الشفاعة عند الله في أن يبدأ في القضاء والحكم بين العباد , فيعتذرون إلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإنه يقول: (( أنا لها )) فيذهب صلوات الله وسلامه عليه ويخر ساجداً تحت عرش الرحمن ويفتح الله عليه من محامده وحُسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبله ، ثم يقول الله له: (( ارْفَعْ رَأْسَكَ وَسَلْ تُعْطَهْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ )) , وحينئذ عباد الله يجيء الرب عزّ وجل للفصل بين العباد، وهذا هو معنى قول الله تعالى: ﴿ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾ [الفجر:٢٢-٢٤] .
فتفكر في هذا اليوم الذي وُصف لك وفي هذا الحال الذي حُدِّثت عنه، وأعد له عدته , وعليك بتقوى الله فإنها خير زاد وقد قال الله تعالى في ختام آيات الحج: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ [البقرة:٢٠٣], جعلنا الله وإياكم من عباده المتقين , وأعاذنا جميعاً من خزي يوم الدين، وجعلنا بمنّه وكرمه يوم الفزع الأكبر من الآمنين . أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم .
اتقوا الله فإن تقوى الله جلّ وعلا خير زاد ، وقد قال الله تعالى في أثناء آيات الحج : ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة:١٩٧] .
من علِم أنه موقوف يوم القيامة بين يدي الله فليعلم أن الله تبارك وتعالى محاسبه ، ومن علم أن الله جلّ وعلا محاسبه ومجازيه فليُعِدَّ للحساب جوابا وليعد للجواب صوابا ، فالكيس من عباد الله من دان نفسه وعمل لما بعد الموت , والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني . واعلموا رعاكم الله أن خير الحديث كلام الله وخير الهدى هدى محمّد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكلّ بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وعليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة , وصلّوا وسلّموا رعاكم الله على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ [الأحزاب:٥٦] .
اللّهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد , وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعنّا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين .
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ، ودمِّر أعداء الدين , واحم حوزة الدين يا رب العالمين, اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وعبادك المؤمنين ، اللهم وعليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك ، اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك ، اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك اللهم من شرورهم ، اللهم من أرادنا أو أراد ديارنا أو أراد ديننا بسوء فأشغِله في نفسه ، واجعل تدميره تدبيره يا ذا الجلال والإكرام . اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا , واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين ، اللهم وفق ولي أمرنا لهداك واجعل عمله في رضاك ، وارزقه البطانة الصالحة الناصحة يا ذا الجلال والإكرام. اللهم وفق جميع ولاة أمر المسلمين للعمل بكتابك وتحكيم شرعك .
اللهم آت نفوسنا تقواها ، زكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها , اللهم وأصلح لنا شأننا كله . اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات , اللهم أصلح ذات بيننا ، وألف بين قلوبنا ، واهدنا سبل السلام ، وأخرجنا من الظلمات إلى النور ، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وأزواجنا وذرياتنا وأموالنا واجعلنا مباركين أينما كنا . اللهم إنا نعوذ بك من الفتن كلها ومن الشرور جميعها ، اللهم إنا نعوذ بك من كل أمرٍ يسخطك يا ذا الجلال والإكرام , اللهم إنا نعوذ بك من منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء ، اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك ، وبك منك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك . اللهم اغفر ذنوب المذنبين من المسلمين وتب على التائبين ، واكتب يا ذا الجلال والإكرام الصحة والسلامة والعافية للحجاج والمعتمرين ، اللهم وأعدهم إلى ديارهم آمنين سالمين غانمين رابحين ، اللهم أعِدهم وقد حُطت عنهم الذنوب ، اللهم أعدهم إلى ديارهم وقد أعتقت رقابهم من النار . اللهم وأعتق رقابنا أجمعين من النار ، اللهم أجرنا من النار , اللهم أجرنا من النار ، اللهم أعذنا يا ذا الجلال والإكرام من النار ومن كل ما يسخطك يا ذا الجلال والإكرام . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. عباد الله : اذكروا الله يذكركم ، واشكروه على نعمه يزدكم ) وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ).