دكتور محمد كامل الباز يكتب :هكذا يكون الرجال!
ندوة ثقافية أو صالون ثقافي، ملتقى علمي أو إن شئت فقل: تجمع أدبي، يجمع المفكرين والمتنورين، المثقفين والعلمانيين.
أخذ المفكر الفلاني المشهود له بالتنوير والحداثة ولا أعرف حتى الآن ما معنى كلمة تنوير؟!
أخذ يتحدث عن الثقافة والتراث، وكعادة المتنورين في كل نقاشاتهم يتطرقون للتراث المظلم على حد وصفهم، ويشككون في السنة النبوية؛ فكما هو معروف أن علم الرياضيات عامل مشترك لكل المهندسين، فالقدح في السنة وعلماءها هو أيضًا عامل مشترك لأي متنور أو علماني، لا يستطيع الكلام في أي موضوع دونه، لا يعتاد النقاش في أي مشكلة دون تسليط الضوء على السنة وأهلها.
فلو تحدث عن أزمة أوكرانيا وروسيا سيقنعك أن الإمام مسلم له دور في تلك المشكلة، ولو أخذ يستعرض معك مشكلة المياه أقنعك أن من أحد أسبابها الإمام البخاري، أما إذا تشجّع وتكلّم عن غلاء الأسعار (وهذا مستحيل طبعًا) سيكون السبب الرئيس خلفها: الإمام أحمد والشافعي.
لهذا الحد تعوّدنا على ندوات ومواضيع هؤلاء القوم، محاضرة واحدة والباقي منسوخ منها تمام النسخ مع الفارق في بعض المسميات، لكن ما لفت نظري لكلام المثقفين في تلك الندوة هو التشفي بل والسخرية من مقتل (يحيى السنوار)!
اندهشت كثيرًا مما سمعت، حيث وجدت أحدهم يعلق أنه السبب فيما نحن فيه الآن، أخذ أخر يجوّد أنه كان عميلًا، أضاف متنور ثالث أنه ورجاله ورّطوا الشعب الفلسطيني في الحرب بينما كانوا هم وعائلاتهم في مأمن!
تمنيت أن ذهبت لتلك الندوة وطلبت مباحث الكهرباء لقطع النور على هؤلاء المخرّفين.
تمنيت أن لو جاءت وزارة التربية والتعليم وأخذت تلك الشقة مكانًا لإعطاء دروس التقوية لطلابنا بدلًا من هذا الخبل، كيف لهؤلاء المحسوبين علينا رجال أن تختفي من وجوههم حمرة الخجل إلى هذا الحد، ألا يستحي أحد منهم وهو يقف ومعه طعامه وشرابه وبين أهله لينظّر على من هم بألف من شاكلته.
يتضورون جوعًا ويتألمون جرحًا ويفقدون كل يوم عزيزًا من أجل الدفاع عن أرضهم ويأتي المدللون كي يستبيحوا سيرتهم، ألا يستحي هؤلاء المرفهون الذين إذا تعطل مكيف الهواء في ندواتهم هرولوا مسرعين لمنازلهم كي لا تتألم أجسادهم من حرارة الطقس!
جاءوا هنا كي يتكلموا على من عاش أكثر من عام الآن في حصار وحرب وقصف في العراء والشمس!
أخذت أتساءل مع نفسي هل وصلنا لهذا الحد أن يقف الصغار ليتحدثوا عن الكبار!
تكلموا عن هنية ووصفوه بالجبان وقد فقد جّل أهله في الحرب، وهم مستعدون لدفع كل غالي ونفيس من أجل تعيين أولادهم في مناصب لا يستحقونها، بل وتطاولوا أكثر حتى بعد موت أولاده ليقولوا أنه مختبئ خارج البلاد حتى أراد الله ليقبض عمره من قبل عدوه كي تخرس ألسنتهم ويُفضَحوا على الملأ.
فهل صمتوا؟
لا والله، أخذوا يتحدثون عن السنوار وأنه عميل!
عميل؟! قضى أكثر من عشرين عامًا في المعتقلات يكون عميل؟
دخل السجن في العشرين من عمره من أجل قضية يدافع عنها.
وهؤلاء المتنوّرون في نفس العمر كان كل هدفهم من سيتزوج وكيف سيعيش، رجل توفاه الله في الثانية والستين وعنده طفل لم يتجاوز الخامسة لأنه لم يكن عنده وقت للزواج حيث كان مناضلًا ومكافحًا طيلة حياته، يوصف بالعميل؟!
قال بنفسه أن أفضل خدمة يقدمها العدو لي أن يقتلني كي ألقى الله شهيدًا، وأضاف أنه تجاوز الستين ويقترب من أجله فلا يتمنى أن يموت على فراشه أو في المستشفى أو بحادث طريق كما يحدث لنا وبالفعل حقق الله له ما كان يتمناه، هل مثل هذا يقال عنه عميلًا؟
وصلنا للوقت الذي يتهكم فيه من يكرّس حياته للهو واللعب على من قضى حياته في الجد والتعب، قالها المظفّر قطز سابقًا.
وأضيف عليها حاليًا:
(ما أتعس الشعوب إذا كان مثقفوها من هواة جمع المال، وما أشقى الرجال إذا تحدث عنهم أشباه الرجال).