مقالات

د. محمد كامل الباز يكتب : يوم الذئب التركي

الحداد هو التعبير الرسمي والحسي لفقد عزيز، ويختلف الحداد على حسب أهمية الشخص وتأثيره في المجتمع وأحيانًا في العالم كله. يظهر هذا الحداد بشكل جلي في المجتمع التركي؛ حيث إنه كل عام يوم العاشر من نوفمبر، وبالتحديد الساعة التاسعة وخمس دقائق صباحًا، يقف المجتمع كله حدادًا على الرئيس التركي الراحل كمال أتاتورك.

تتوقف الحياة تمامًا لمدة دقيقة وتُطلق صافرات الإنذار، وتتعطل وسائل النقل والمرور، بل ويقف المواطنون تلك الدقيقة حدادًا على أتاتورك.
ماذا صنع أتاتورك؟ ماذا فعل أتاتورك؟ ماذا أنجز أتاتورك لينال كل ذلك التقدير ويحظى بهذا الحداد الكبير؟

من الخلافة إلى العزل
بعد فشل اليهود في إغراء السلطان عبد الحميد الثاني، أحد أهم خلفاء الدولة العثمانية، بل ويعتبره المؤرخون آخر خليفة فعلي للمسلمين، من إعطائهم وطنًا في فلسطين، نعم، رفض السلطان عبد الحميد الثاني عرض تيودور هرتزل المغري وطرده مؤكدًا له أن فلسطين ليست للبيع.

منذ ذلك الوقت، واليهود يعتبرون السلطان عبد الحميد الثاني عدوًا رسميًا لهم.. حاولوا عزله، اغتياله، الثورة ضده، كل ذلك فشل، لكن الذي نجح هو تكوين جيل من المتنورين الأتراك ممن يضيق بهم الحال من تراث أمتهم وتاريخ أجدادهم.

نجح اليهود في زرع الكثير من الأحزاب والجمعيات التي ينتمي ولاء أعضاؤها في المقام الأول للغرب، مبهورين بتقدمه، ناقمين على كل ما هو إسلامي ومتهمين إياه بالرجعية.

كان من أهم تلك الأحزاب حزب العدالة والترقي، والذي دخل تحت قيادته أعضاء من الجيش التركي، وعلى رأسهم، وبين القصيد ومحور حديثنا، كمال أتاتورك. استطاع هؤلاء الضباط، وبمساعدة الغرب واليهود، تقليب الشارع ضد السلطان عبد الحميد الثاني، بل وإشعال ثورة كبيرة ضده انتهت بعزله عام 1909.

منذ هذا التاريخ، والحال تغير تمامًا في العالم الإسلامي، حيث استطاع حزب العدالة والترقي، وبمساعدة اليهود، الهيمنة على الحكم في دولة الخلافة، رغم أنه كان هناك خليفة بعد السلطان عبد الحميد الثاني لكنه كان كما يقال (صورة)، حيث كان للحزب جميع القرارات السيادية والمصيرية، ومنها إقحام تركيا للدخول في الحرب العالمية الأولى بجانب ألمانيا ضد بريطانيا وفرنسا وروسيا.

إنجازات أتاتورك المثيرة للجدل
حرب غير متكافئة نتج عنها هزيمة ألمانيا والأتراك، ومن ثم تقسيم تركة الخلافة العثمانية بين إنجلترا وفرنسا. استغل اليهود ذلك الانقسام وضاعفوا أعدادهم في فلسطين، بل تم إسناد قيادة الجيش في الشام لأتاتورك الذي فعل ما لم يفهمه أي عسكري حتى الآن، هو الانسحاب من جبهة القتال في فلسطين تاركًا المجال للقوات الإنجليزية لدخول القدس. وليكن هذا هو الإنجاز الأول الذي يُكافأ عليه أتاتورك بالوقوف حدادًا على روحه.

أم ترى أن ما فعله بعد ذلك هو الإنجاز الحقيقي الذي يستوجب الحداد؟
استطاع أتاتورك كسب ثقة الشارع التركي بمساندة إنجلترا وفرنسا وصعد لمقاليد الحكم، مُكوِّنًا الجمهورية التركية. وكثير من الأتراك لا يعرف ماذا فعل أتاتورك كي يُكرم كل هذا التكريم، ولكني هنا سأحاول أن أُعرِّف السبب الرئيسي في تكريم هذا الأتاتورك:

فبعد توليه الرئاسة التركية، قام أتاتورك بأهم عمل كافأه عليه الغرب، وهو إلغاء الخلافة الإسلامية بالكلية عام 1924. قام بجرَّة قلم بمحو خلافة أسسها المصطفى صلى الله عليه وسلم وتسلمها من بعده الخلفاء الراشدون، ومن ثم تتابع الخلفاء حتى محى تلك الخلافة هذا الكمال. ومن بعدها، فصل تركيا بالكلية عن العرب والمسلمين، وكان من ضياع ذلك استيلاء اليهود على فلسطين واستيطانهم بها.

لكن بالتأكيد كان لهذا الزعيم أعمال أخرى غير تسليم فلسطين وإلغاء الخلافة تستحق التقدير. هل مثلًا قيامه بـ:
* إلغاء الشريعة الإسلامية بالكلية واستبدالها بالقانون الغربي، ومن ذلك مساواته للذكر والأنثى في الميراث؟! من الممكن.
* ولكن الرجل فعل أشياء أخرى ربما تخلده أكثر في التاريخ، سأذكرها مباشرة:
* منع فريضة الحج.
* منع اللغة العربية.
* منع الأذان.
* منع الحجاب.
* ألغى الاحتفال بعيد الفطر وعيد الأضحى.
* جعل الأحد إجازة أسبوعية بدلًا من الجمعة.
* أعدم مئات العلماء والفقهاء.
* أوصى بعد موته بعدم الصلاة عليه مثل المسلمين.
ذكرت لكم معظم إنجازات الرجل ليختار القارئ ما شاء منها ليكون إنجازًا فعليًا يستحق التقدير والحداد، بل ووقْف الحياة كاملة في بلد في ذكرى وفاته. أما أنا فأرى أن من يستحق التقدير والحداد هو ذلك النمل الأحمر الذي ساعد في قبض روح هذا الهالك.

أما عن آخر إنجازاته العظيمة، كان وقوفه أمام البرلمان التركي ساخرًا، وهو يقول : إنه من غير المنطقي ونحن في القرن العشرين أن نسير وراء كتاب يتكلم عن التين والزيتون، يقصد (القرآن الكريم). فعاقبه العلي القدير بهذا النمل الأحمر يأكل في جسده. كان يموت ببطء أمام كل الأطباء ولا يستطيع أحد فعل شيء له حتى ذهب للقاء ربه. ذهب له دون جنود أو جيوش، ذهب له وحيدًا ليس معه إلا: إلغاء الخلافة، إلغاء الشريعة، منع الحجاب، منع الحج… إلخ. معه أشياء كثيرة عليه إعداد العدة عند السؤال عنها.

نعم راح أتاتورك وسيروح مئات مثله. رحل في حداد لم يحدث لأحد قبله أو بعده. رحل وهو مُكرَّم في الدنيا وبين وسائل الإعلام العالمية والغربية، ولكن هل يشفع له هذا أمام ملك الملوك؟

لم يرحل في حرب أو على جبهة قتال، لم يمت في منفى وهو يدافع عن بلده أو شنقه الأعداء مثلما حدث مع عمر المختار. بل حاصر جسمه نوع غريب من الحشرات يُسمى النمل الأحمر أصابه بمرض عجز الأطباء عن علاجه. لكن بعد وفاته، اندهش الأتراك وأصابهم الحيرة والجنون، حيث كان العلاج الوحيد لهذا المسكين مُستخلَص من لحاء شجر التين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى