الجاسوسية
بقلم / أمنية الخولى
الجاسوسية هى أقدم مهنة مارسها الإنسان منذ بدء الخليقة
دفعته إليها غريزته لتأمين غذائه ومأواه وإخترق المجهول للحصول على المعلومات فى صراعه مع الطبيعة ووحوشها.. وحين حول صراعاته مع أبناء جلدته كان بحاجة لكشف أسرار خصومه
وتوسيع دوائر نفوذه وسطوته.. ومن وحى التلصص عرفت البشرية الجاسوسية بدءا من استخدام الحواس والحيل مرورا بأجهزة المخابرات..
انتهاء بحروب الجيل الخامس العالم الخفى الذى كتب تاريخه
فى الغرف السوداء وكان لأصحابه الفضل فى نهوض أمم وممالك
كما كانوا السبب فى إسقاط عروش ونهاية دول.. وما بين النبل والخيانة فعلها البعض خدمة للوطن أو المبدأ أو الفكرة
وآخرون امتهنوها من أجل المال أو الشهوة.. لكن فى كل الأحوال تظل الجاسوسية مغامرة محفوفة بالخاطر فى سبيل الحصول على معلومات غير متاحة فشلها يعنى الموت أو الإعدام.. ونجاحها يروى للأجيال تجربة لا تنسى بغض النظر عن مشروعيتها وأهدافها
فماذا يخبرنا التاريخ عن دهاليز الجاسوسية وأشهر مغامريها؟
فى أول عملية مخابراتية منظمة وضع الملك تحتمس الثالث
200 من جنوده فى أكياس دقيق حين طال حصار جيشه لمدينة يافا وتعثر عليه اقتحام أسواره وشحنهم على ظهر سفينة إلى ميناءها
وهناك تمكنوا من دخول المدينة وفتحوا بواباتها للقائد تحتمس وجيشه
ورغم نجاح الخطة لم يفخر بها تحتمس واعتبرها طعنا فى الظهر
وليس مواجهة شريفة بين مقاتلين.. لذلك حين كتب انجازاته على جدران معبده أمر بتدوين عمليته فى يافا بخط ثانوي وأخفاه تحت اسم ( العلم السري ).. لكنه لم يعرف أن تجربته ستعاد بسيناريو جديد
كما فعها الإغريق فى حرب طروادة عندما صنع جيش اسبرطة حصاناً خشبياً ضخماً قدموه كهدية سلام لأهل طروادة.. وأثناء احتفالهم خرج جنود اسبرطة من الحصان ليلا وفتحوا بوابات المدينة لبقية جيشهم
ليتمكنوا من اقتحامها وتدميرها بلا رحمة وعلى نفس النهج زرع هانبيال القرطاجى جواسيسه فى أسبانيا قبل حملته عليها عابرا مضيق جبل طارق عام ( 220 ق.م ) ومنها إلى إيطاليا وفرنسا محطماً كل جيوش الرومان التي تصدت له من خلال المعلومات التى قدمها عملائه
عن كل مدينة قبل دخولها بمعرفة معنويات الناس والجيش وخصوبة الأرض وأنواع المحاصيل.. ثم يضع خططه الحربية على ضوء مايتوافر له من معلومات.. وكذلك فعل المغول بزرع الجواسيس فى كل بلد قبل دخولها خلال فتوحاتهم في آسيا وأوروبا وحتى وصولهم إلى مصر
وقبل خمسة قرون قبل الميلاد قسم رائد الجاسوسية الصينية ( صن تزو ) العملاء إلى أنواع بحسب طرق تجنيدهم.. كما عرفتها أجهزة المخابرات الحديثة ما بين عميل يتقاضى مكافآت على المعلومات
وخائن في صفوف العدو تم إغرائه وعميل أمكن إقناعه بالعمل لدى خصوم دولته فيما يعرف بالعميل المزدوج.. ولا زال الكتاب يدرس فى الأكاديميات العسكرية واستفاد منه ( ماوتسى تونج ) في حروب جيشه الأحمر ضد القوميين واليابانيين.. وفى الهند تحكى لنا موسوعة “ارثاشاسترا” التي كتبت فى القرن الثالث قبل الميلاد كيف يحتاج الملك للجواسيس فى جمع المعلومات بما في ذلك الأحدب والقزم والخصيان والنساء البارعات والأشخاص الأغبياء.. إضافة إلى المختصين بالتسميم والإغتيال.
وفى اليابان كان لهم إبداعا خاصا حين استخدموا مقاتلى النينجا
كجواسيس يراقبون سراً تحركات العدو واشتهروا بأنهم سادة أساليب التخفي وكانت ذروة نشاطهم خلال حقبة الممالك المتحاربة
فى القرنين الـ15 والـ16 وكما كان (البصاصين) عماد دولة المماليك
كانوا أيضا سببا فى انهيارها حين زرع العثمانيون (الزينى بركات) بينهم
وأشعل نيران الفتنة بين الأمراء والسلطان حتى تهيأت الظروف لدخول بنى عثمان مصر.. وكما تدين تدان فبعد خمسة قرون تزرع الأجهزة البريطانية (توماس إدوارد لورانس) المعروف بـ لورانس العرب
ليعمل كمستشار للأمير فيصل الابن الأكبر للشريف حسين قبيل ما يعرف بالثورة العربية الكبرى ضد حكم الأتراك العثمانيين والتى مولتها وشاركت فيها القوات البريطانية بقيادة اللورد اللينبي عام 1918..
وكما حول البارود زمن السيوف إلى عصر البندقية بدخول البحث العلمى عالم المخابرات انتقل التجسس لمراحل متقدمة كانت ذروتها فى بدايات القرن العشرين حين ظهر الحبر السرى بديلا للتلغراف
التى انكشفت شفراته وكان أشهرها تلغراف (زيمرمان) وزير الخارجية الألمان أثناء الحرب العالمية الأولى والذى أرسل إلى حلفاء برلين فى المكسيك يدعوهم لمهاجمة الولايات المتحدة.. ولكن التلغراف وقع فى يد الاستخبارات البريطانية لتصبح أشهر فك شفرة في تاريخ الجاسوسية.
ومن حالات الفشل الشهيرة فى عالم التخابر قصة أستاذ العلوم السياسية الشيوعى الألمانى (ريتشارد سورج ) والذى استطاع الاتحاد السوفيتى تجنيدهم وأجاد 5 لغات إجادة تامة في غضون سنوات قليلة
وقام بعمليات تجسس لصالح السوفيتى في الصين وألمانيا النازية واليابان وكان له دور مهم فى نصر الروس على الألمان.. لكن نهايته جاءت بسبب خطأ ساذج حيث قام بتمزيق ورقة تحتوي على أحد المعلومات الاستخباراتية بدلًا من حرقها وتم الكشف عن هويته فى اليابان وحكم عليه بالإعدام عام 1944 لكن تظل فضيحة (ووترجيت)
الأشهر فى تاريخ الجاسوسية المعاصر.
وكان اكتشاف عملية زرع أجهزة تنصت فى مقر اجتماعات الحزب الديمقراطى سببا فى استقالة الرئيس الأمريكي (ريشارد نيكسون) عام 1974.
وفى عالم الأسرار والغموض لم يكن استخدام المرأة في مجالات التجسس وجمع المعلومات أمرًا عرضيات فلمعت فى فضائه أسماء عديدة كانت أشهرهن البريطانية (كريستين كيلر) والتي عملت لصالح المخابرات السوفييتية وكانت سببا فى الإطاحة بوزير الدفاع البريطاني (جون بروفيومو) وأفقدته منصبه.
ولا ينسى تاريخ التجسس عاملة النظافة في السفارة الألمانية بباريس
(ماري كودرون باستيان) التى كانت تحمل فى سلال القمامة رسائل مشفرة إلى رؤسائها في الاستخبارات العسكرية الفرنسي.
وعبر آلاف الوثائق مكتوبة ومسموعة ومرئية كشفت وقائع أشبه بالخيال العلمى.
فى عالم التجسس قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية برز فيها اسم عالم الطبيعة النووي الانجليزى ألمانى الأصل (كلاوس فوخس) وكان ضمن علماء في مشروع مانهاتن لصنع القنبلة الذرية بمشاركة بريطانيا وأمريكا.. وأفشى أسرار المشروع كاملا للاستخبارات السوفييتية
وبلغ مستوى التجسس ذروته كما وكيفا خلال الحرب الباردة..
ومع تواصل تجنيد العملاء السوريين تم حشد علماء وباحثين وضعت تحت أيديهم ميزانيات مفتوحة لتطوير أساليب التجسس عبر آلات وتدريبات فى سباق موازى لعمليات التسلح العسكرى.
ومن أشهر قصصها كان نجاح الروس في تجنيد ضباط ومسئولين في أجهزة الأمن الأميركية ومنهم (ألدريتش آميس)
الضابط السابق في (سي آي إيه) لذى تطوع للتجسس لصالح الاتحاد السوفييتية.. حيث قدم لموسكو معلومات خطيرة عن العملاء المزدوجين داخل روسيا مما أدى إلى اعتقال 100 منهم..
ومثلها تم اكتشاف “جيري تشانج لي” وهو أميركي من أصل صيني
عمل في “سي آي إيه” حتى 2007 ثم جندته بكين وتمكن من فضح 20 مُخبرا يتعاملون مع “سي آي إيه” داخل الصين وأعدم بعضهم واعتقل آخرون.. في واحدة من أسوأ عمليات الفشل الاستخباراتي الأميركي..
ولم تكن الأجهزة الأمنية العربية غائبة عن فضاء التجسس
فأمام عملية تجنيد إسرائيل لليهودى مصرى الأصل (إلياهو كوهين)
وإرساله إلى دمشق بأسم مستعار هو (كامل أمين ثابت) ونجاحه في إقامة شبكة واسعة مع ضباط الجيش والمسؤولين العسكريين
ونقل عنهم معلومات خطيرة.. ثم كانت الصدفة سببا فى اكتشافه
من قبل المخابرات المصرية عام 1965 وتم إعدامه.. فى المقابل سجلت المخابرات المصرية سجلا بأحرف من نور.. وكانت عملية زرع ) رفعت الجمال) المعروف برأفت الهجان تجربة إنسانية رفيعة وعبر 20 عاما عاشها فى إسرائيل جند شبكة واسعة من العملاء تحت ستار شركة السياحة التي يمتلكها وكانت لها الفضل فى تزويد مصر بمعلومات خطيرة تتعلق بترتيبات تل أبيب للحرب قبل أكتوبر 1973..
أسماء وأسماء حفرت لنفسها مكانا في ذاكرة التاريخ سواء بسمات شخصية فريدة أو نقاط ضعف كانت سببا فى تجنيدهم.. لكن تظل أدوارهم ذات تأثير عميق في حياة شعوبهم وأمن أوطانهم وأعدائهم على السواء..
فى الجاسوسية لا فاشل ولا ناجح فكل طرف سيحكم من ناحيته فقط
بينما الخيانة والوطنية لم ولن تكونا وجهة نظر ….