رسائل لم تصل
بقلم / سلوى مرجان
نفضوا التراب من فوق الرسائل المبعثرة في الخزانة بمكتب البريد القديم، وتناول الموظف رسالة يرجع تاريخها لعام ألف وتسعمائة وسبعة وستين، ابتسم وهو يلوح بها لزميله وقال: لم لا نرسلها؛ فالعنوان بالشارع المجاور.
قهقه الآخر واستحسن الفكرة قائلا: اطرق الباب ودعها، لا تنتظر أن يفتح أحد.
البيت كان مكونا من طابقين، يحيط به سياج حديدي قديم، تستطيع أن ترى من خلاله حديقة مهجورة لم يعتن بها مخلوق منذ سنوات طوال، الطابق الأول فقط تسكنه سيدة مسنة تعتني بها حفيدتها الشابة التي تأتي بعد عملها لتعد لجدتها الطعام، أما الطابق الثاني فكان لوالد الفتاة الذي توفى قبل ولادتها بيومين.
تسمع الفتاة أحدهم ينادي من الأسفل : خطاب للآنسة هدى.
تعجبت الشابة بشدة وهمست لجدتها الجالسة السرير: من يعرف عنواني هنا؟!
أجابت جدتها بصعوبة: أحضري الخطاب وسنعرف.
نظرت هدى من النافذة فوجدت الرجل يضع الخطاب على السور ويمضي.
بعد دقيقتين عادت تحمل الخطاب، وهي تنظر لها بدهشة بالغة وتقول: الخطاب لك يا جدتي، إنه من الاسماعيلية.
حاولت جدتها أن تتذكر إن كان لها أقارب أو معارف هناك، ولكن الحفيدة قطعت حبال الذاكرة بضحكة عالية، تبعتها بقولها: يعود تاريخ الخطاب لأكثر من خمسين سنة.
فعادت لجدتها الذاكرة دفعة واحدة.
الإسماعيلية في الرابع عشر من نوفمبر (تشرين الثاني)١٩٦٧
العزيزة هدى / تحية طيبة وبعد….
أنا منار سالم, الأخت الصغرى لياسين سالم
أعلم أني قد تأخرت جداً في كتابة تلك الرسالة، وربما أصاب الحزن قلبك جراء الانتظار والقلق على ياسين.
أنت تعلمين ما حدث بيونيو الماضي والدمار الذي لحق بالإسماعيلية، لقد خرجت الناس للشوارع مفزوعين كيوم الحشر، الجميع تركوا كل متعلقاتهم وأخذوا ما في البيت فقط من مال، وآخرون لم تواتهم حتى الفرصة لأخذ ذويهم، فلقد تهدمت البيوت في دقائق، وانقلب الحال في لحظات.
أخبرني أخي في الليلة السابقة أنه سيزوركم الأسبوع القادم ليطلبك من والدك، كما أخبرني عن لقائكم الأول في صيدناوي حيث تعملين، وتلا ذلك لقاءات ملفقة تحجج فيها بالشراء ليراكي، وأخيراً عن مقابلتكم الأخيرة في بيت أخيك.
لأ أطيل عليك يا هدى، كنت أتمنى أن أراك وأتعرف إليك، ولازالت تلك الأمنية قائمة ولكنها أصبحت بعيدة، بعيدة جدا.
لقد وقع البيت جراء القصف وأصيب ياسين إصابة بالغة بالرأس، أصبح في عالم آخر، يخل منا، أصبح واحدة خاويا من كل ذكرى، عاد صفر اليدين في آثار الحياة، فلا يملك تاريخاً سارا أو حزيناً.
الأمر ليس بيده، لذا سأنتظر رسالتك التي سأقرأها عليه دوماً ، ربما يعود لنا من جديد.
منار سالم
نظرت هدى لجدتها فرأتها شاردة، فقالت: من هو ياسين ؟
أجابت جدتها: الجرح الأعمق، والحب الوحيد، من قال عنه أخي (أنه النذل الذي لم يف بالعهد) ففوضت أمري لله فيه، وسألته أن يذيقه أضعاف ما أذاقني من آلام على خذلانه لي.