900
900
مقالات

هل ينتصر الحب في رواية “رغبات مهشمة” للشاعرة اللبنانية إخلاص فرنسيس؟

900
900

بقلم / هناء عبيد

صدرت الرواية عن دار يافا العالمية، وتقع في ١٣٣ صفحة من الحجم المتوسط، وهي الرواية الأولى للشاعرة اللبنانية إخلاص فرنسيس.
كتب مقدمة الرواية الشاعر والكاتب معروف عازار كذلك الشاعر جميل داري، كما كتبت الشاعرة والروائية إخلاص فرنسيس كلمة شكر ومقدمة بينت من خلالهما أن رغبات مهشمة هي روايتها الأولى، كما شكرت فيهما كل من ساهم في تشجيعها وتوجيهها خلال رحلتها الروائية.
كل فصل في الرواية يبدأ بقصيدة نثرية من تأليف الروائية إخلاص،
وقد استهلت الرواية بقصيدة نثرية بعنوان “شمس وحياة”، قصيدة رقيقة تبحث فيها الروائية عن صورة الحبيب في أجفان الفجر وشعاع القمر وعن الأحلام التي بنتها مع الحبيب.
قصيدة تكشف خبايا أحاسيس الروائية الرومانسية الدافقة ومشاعرها الرقيقة التي تنثرها في كل أجزاء الرواية.
الرواية تتحدث عن سيدة تعشق شخصًا دون أن تلتقيه، حيث تم التعارف بينهما من خلال وسائل التواصل الإلكترونية، نعيش معها رحلتها إلى أن تقابل الحبيب الذي لا تعرف عنه سوى الخطوط السوداء على الورق، نسافر مع هواجسها ومشاعرها وأنوثتها، نعيش رقتها، نتوق لمشاركتها اختياراتها، كرؤية فستانها الأزرق، واشتمام عطرها، وسماع رنة الحلق، بل ونتمنى لو أننا نعمنا بلقائها في المطعم
ورغم أنه حب لم يتم إلا من خلال رؤية صور باهتة وقديمة، إلى أن اللقاء كان حميميًا، فهو لقاء الجبابرة كما وصفته في عنوان أحد فصول الرواية، حقا إنه لقاء الجبابرة، فكيف للمشاعر أن تعرف طريقها دون لقاء مسبق، تقول في ص٢٢:
“إذن هذا هو لقاء الجبابرة، أن يخطفنا من ذاتنا، ويسرق الكلام منا، تتلاقى الأيادي ببطء، وتخبر ما عجزت الشفاه عن أن تنطق به،”
ونعيش مع “ريتا التي نتعرف على اسمها في ص ٢٥” الصراع بين الماضي والحاضر، بين وهم الحب في القطيع وبين الحب الحقيقي الحرّ، ما أصعبها من لحظات حينما نقف أمام الزمن وقد وصلنا الى نقطة نشعر فيها بالندم، إنها الأوقات التي يتوقف عندها القطار في محطة بعد فوات الأوان، فَلِم يختار القدر لنا أحيانًا رحلة لا تلبث أن تغير مسارها وتحجبنا عن لقاء متعة أرواحنا؟!
نعيش الأجواء مع الحوارات، نفرح، نبتسم، نرقص، ننتشي بسماع الموسيقا، نتألم، نبكي، نجد أنفسنا بين الخطوط والكلمات،
نعيش قصة حب عذرية رقيقة نتمنى في قرارة أنفسنا أن تنتهي نهاية سعيدة، فما أقسى أن تنتهي قصة حب بانفصال!
ولا بد لهذه القصة أن تكون خالدة، كما توق الإنسان إلى الخلود.
في كل عبارة شعرية تنثرها الشاعرة، نجد أنفسنا وقد غصنا مع ريتا في صراعاتها، فتارة نكون متعلقين في متاهات الحب، ودفء اللقاء، وتارة نعيش صراعات العشق والخوف، بل ويمتد الصراع ليشمل تناقضات أرواحنا وصراعها مع أسْرِ العادات والتقاليد، إذ أنه من الواضح من خلال السرد أن ريتا ورغم إقامتها الطويلة في كندا إلا
أنها بقيت محافظة ومتمسكة بالعادات والتقاليد الشرقية، فنجد أنفسنا امام قصة عشق عذرية رقيقة لم تتأثر بانجرافات العصر وابتعاده عما هو مألوف في مجتمعاتنا سابقًا، نندمج مع هذا العشق الدافئ الذي جعلنا نتماهى مع موجاته بكل أريحية، نستمع من خلاله إلى قصائد شاعرية تهيم بأحاسيسنا، ننتشي بها بعيدًا عن أي ابتذال قد يقحمه الكاتب لغرض جذب أو تسويق.
تعيش ريتا قصة عشقها مع غريب، هكذا اختار اسمه، فهو غريب لأنه تغرب منذ نعومة أظفاره عن أهله وهذا ما أخبره لريتا.
وتشدنا الرومانسيات لنجد أنفسنا ثانية وقد اقتحمت أرواحنا مشاهد العشق التي أصبحت نسيًا منسيًّا في زمننا الحاضر المتسّم بالجمود والإلكترونيات والجفاف، كأنها فرصة لنا لتستعيد رئتينا تنفّس شهقات الحبّ الّتي غرقت في بحر الحداثة الرتيب.
المكان
أخذت الأحداث مكانها في لبنان، الوطن الأم والذي تصفه بالوطن المذبوح، رغم جماله في عيونها، ذلك الوطن الذي غادرته ثلاثين عامًا، تتذكر بحنين وشوق وحب كل شبر فيه وتتساءل كيف أضحى هذا الوطن بعد سنوات الحرب؟
ومن خلال ذكرياتها نتجول معها في لبنان الجمال، حيث الشجر، وأصوات الباعة ووجوههم التي اكتست بالسمار بسبب أشعة الشمس، وصوت البحر والموج الذي يضرب صخرة الروشة، وجبال الأرز، تحن إلى تلك الأماكن وتشبعنا لوعة لعناق لبنان بلد الجمال الذي ترسخ في فكرنا بمشاهده المبهجة وأهله الطيبين.
ثم يأتي الحنين وبهجة اللقاء بلبنان، حينما تحط عجلات الطائرة على أرض بيروت، بيروت العشق، بيروت الذكريات الجميلة، بيروت الأشواق، لكنّ المشهد أصبح غريبًا فقد تبدلت بيروت
تقول الروائية في صفحة ١٥:
“أين الجبال التي كانت تتكلل بشجر الصنوبر؟ تراها الآن كومة من حجارة الأبنية الشاهقة؟ أين الدرب الطويل الذي كان ضباب الصباح يغطيه؟ أين أنت يا وطني؟”
تعيش الاغتراب وتسحق قلوبنا معها بالحزن، فلبنان جزء من قلوبنا، نبكي شقاءه كما لو كان قطعة من الروح.
ثم نعود لنبتهج بأجواء لبنان في ذلك المقهى الذي يزدان بنافورة في وسطه وبعض الحبق، ونشتمُّ معها رائحة الطعام التي تختلط برائحة النرجيلة ونمتع ناظرينا بالنهر المنساب من قمم جبال لبنان.
وتعود بنا الأماكن مع ريتا إلى كندا، لكن يظل الحنين إلى الوطن، يشغلها حتى في أقسى مراحل أوقاتها، فنرافقها مع أغاني فيروز التي تطرق ذاكرتها بين الحين والآخر، وهذا هو حال المغترب الرقيق المشاعر الذي تطرق أحاسيسه الأشواق، وتبقى لصيقة لروحه.
ورغم أن ريتا عاشت في كندا ثلاثين عامًا إلا أنها لم تحدثنا عنها باستفاضة، إنما عشنا معها الغربة، وكأن حميمية الأماكن تنفرد بها الأوطان حيث ننشأ وحيث نولد، وحيث تبقى جذورنا متأصلة ثابتة راسخة.
زمن الرواية
لم يتحدد تمامًا الزمن في الرواية، لكنه بلا شك تزامن مع ثورة الربيع العربي أو جاء بعدها، فقد اشتعل نار الغضب في قلب ريتا لما آلت إليه بلادنا العربية بما فيها لبنان، حيث الفتنة التي اشتعلت بين أبناء الوطن الواحد.
الحوار الداخلي في الرواية
استطاعت الروائية ببراعة أن تشركنا في خبايا نفسها ومشاعرها وصراعها الداخلي الذي انتابها، فرغم أنها تشعر بربيع عمرها إلا أنها تدرك أن الحقيقة تقول بأنها تجاوزت عمر الحب والزواج، مهما كانت تشعر بالشباب، فلكل مقام مقال،
تقول في ص ١٠:
“العمر هو عدد السنين، حتى ولو كان القلب ما زال ينبض بالحب، حتى ولو في كل لحظة كنت فيها تشعرين أنك ابنة العشرين، لا لست ابنة العشرين، لقد تعديت العمر المسموح به للحب بأعراف البشر على الأقل.”
فهل للحب عمر؟ وهل يدرك القلب أننا تجاوزنا عتبات العمر، هل يتوقف القلب عن الخفقان عند عمر محدد؟
ونشاركها صراعها الداخلي حينما تحتار في ولوج الحب أم كبت جماحه بسبب العادات والتقاليد اذ تقول في ص٤٢-٤٣
“والآن وحدكما، بأي وجه ستواجهين الآخرين؟ وماذا سيكون مصير كل القيم التي تتحدثين عنها؟”
وفي موضع آخر نجدها تشاركنا أحزانها حين اختفاء الحبيب تقول في ص٤٧
“أين هو حبيب روحها؟ هل تركها بعد أن رآها؟ ذعرت من الفكرة، نعم لم ينل مراده منها، لهذا تركها ورحل؟ غير آبه بمعاناتها، أناني أنت، صرخت”
ثم نعيش معها الكابوس مع قصيدة تخرج فيها أناتها في “كابوس آخر” وهو عنوان فصل وقصيدة في ص٤٩
تقول:
“كابوس آخر
أيها المساء الذي عبر بي يومًا
وترك روحي معلقة
ما بين سحاب الأيام والشفق الأحمر
أيها المساء
يا من سرقت روحي
متى تعيدها إلي؟
وهكذا نعيش من خلال حواراتها الداخلية في ثنايا روحها لنشعر ونتعايش مع اللحظات والأحداث بحذافير أحاسيسها ومشاعرها.
الحوارات الخارجية في الرواية
تدور الحوارات بين بطلة الرواية وبطلها بلغة عربية فصحى، لم تستخدم الروائية اللهجة المحكية فيها.
تدور الحوارات بأريحية وبلغة بسيطة سلسة، تتأرجح العبارات فيها بين القصيرة والطويلة.
من خلال تلك الحوارات نعيش الأجواء الرومانسية وفلسفة العشق عبر عبارات شاعرية ماتعة، تأخذنا بدواخلنا لنعيش اللحظات وكأننا نريد أن نكون ضمن المشهد، ربما هو توق الإنسان لكل ما يملأ القلب، فبعد الحروب والظروف التي نعيشها نجد في حكايا الحب ملاذًا آمنا مريحًا يأخذ بأرواحنا إلى شواطئ مريحة.
وكأن الروائية تدرك بذكائها ما يختلج في نفس كل أنثى فتدير الحوار ببراعة وعيها الباطن؛ لتجذبنا إلى العيش بالحوار والاستمتاع بكل خباياه، فمن يعرف الأنثى غير الأنثى الذكية،
تقول في إحدى الحوارات:
“كما أنك أنت أيقظتني، وأيقظت الرجل بي، بالنسبة لي كل النساء متشابهات، لم تشدني إحداهن، ولكن أمامك أنت أجدك الحياة.”
من من السيدات لا تعشق أن تكون الأنثى النادرة المتميزة التي لا تشبهها أية أنثى حين تكون معشوقة؟!
السرد في الرواية
تم السرد من خلال الراوي العليم، وربما هذا ما تلجأ إليه الكثير من الروائيات للابتعاد عن التهمة المنسوبة إليهن بهتانًا، بأن الرواية ما هي إلا سيرة ذاتية لهن، وخاصة أنها الرواية الأولى للروائية، فاستخدام ضمير المتكلم يعطي النص قربًا كبيرًا من الراوي، ويحفه بالحميمية التي تجعل من القارئ يتخيل أن الأحداث ما هي إلا سيرة ذاتية للروائي. ولكن بالرغم من استخدام الروائية لضمير الغائب أو ما يعرف بالسارد العليم، إلا أن براعة وصفها لخلجات نفسها جعلتنا نعتقد أن التجربة حقيقية، وهذا أمر صعب تحقيقه إلا إذا كان السارد متمكنًا من أدواته ليوصلنا إلى مرحلة الإقناع.
أيضًا من خلال الحوارات الخارجية تعرفنا على جميع أبطال الرواية الذين تسنى لهم الحديث عن أنفسهم وعلى أفكارهم وخبايا أرواحهم وصفاتهم وعشقهم، كما حدث مع غريب والممرضة ميكانا وسلمى.
جاء السرد بفنية خطية متصاعدة من خلال لغة عربية فصحى شاعرية ممتعة، اعتمدت السهل الممتنع، كما اتسمت الرواية بعنصر التشويق الذي يشد القارئ حتى آخر حرف فيها، الرواية إضافة نوعية إلى عالم الرواية الكلاسيكية الرومانسية التي تتوق لها أرواحنا في ظل هذا العصر الجامد، كما أنها إضافة قيمة إلى رفوف المكتبة العربية.

اترك تعليقك ...
900
900
زر الذهاب إلى الأعلى