900
900
مقالات

ينفرد موقع ” أخبار الناس اليوم” بنشر رواية “هناك في شيكاغو ” الكاتبة هناء عبيد

بقلم / هناء عبيد - - - شيكاغو

900
900

الجزء ١

لا يسير أيّ أمر في حياتي كما أريد، دومًا العوائق تفاجئني، تصادقني دون دعوة، حتّى في هذا اليوم الّذي أنتظره سنويًّا، أفقت على مفاجأة عكّرت صفو صباحي.
تاريخ هذا اليوم حفظته ذاكرتي، موعدي مع محمود درويش وغسّان كنفاني، وربّما القدر، يوم تلا أيّامًا انطوت برتابة، انتظرته بصبر شديد وشوق، الرياح خيَّبت أملي، وأتت بما لم يكن في حسباني، صوت زخّات المطر في الخارج أرهقني، وسلب حماسي من النّهوض مبكّرًا بعد اليوم الشّاق الّذي قضيته في إكمال بحث خاص بدراستي البارحة، كثيرة هي الأمور الّتي تقف عائقًا أمام رغباتي، كأنّها دومًا تستمتع بأن تعكّر صفو حياتي، أو تتصيّد الأوقات الّتي أشعر فيها بالبهجة، فتفاجئني بزيارةٍ غير مرغوب فيها، لست من عُشّاق البرد والمطر في أوقات الدّوام والعمل، كم تمنّيت أن يزورني هذا الضّيف في أيّام العطل بينما أرتشف فنجان قهوتي في دفء غرفتي، لأستمتع بمراقبة قطراته المتلألئة وهي تنقر زجاج نافذتي، فتمدّني بكسل مضاعف محبّب يزيد من شعوري بالاسترخاء، أو لأشعر بتلك البهجة عند مشاهدة الدّوائر المتشكّلة في تجمّعات المياه على الأرض، وهي تزداد اتّساعًا، فتعطيني الأمل بالانعتاق من زوبعة الحياة وسيرها المملّ، الخروج تحت زخّات المطر في أيّام البرد يرهقني بشدّة، ينخر عظامي الدّقيقة، يلفّ جسدي بالقشعريرة، ويقيّد حركتي ونشاطي، رغم الرّيح الّتي تعصف في الخارج، استجمعت ما لديّ من قوّة اكتسبتها من خلودي للنّوم لساعات محدودة البارحة، تغلّبت على رأسي المثقل، وعينيّ المغمضتين، وكسلي الصباحيّ، خطوت بتثاقل نحو النّافذة بحثًا عن ضوء يطلق العنان لحماسي المقيّد، أزحت ستارة النّافذة الّتي تكاثف على زجاجها بعض البخار، شحّت الشّمس بضوئها بسبب احتجابها خلف الغيوم المتلبّدة الدّاكنة، ظلّ المكان يصارع عتمة الشّؤم الّتي كادت أن تفسد مخطّطي بالذّهاب إلى معرض الكتاب الّذي انتظرته طويلًا، كلّ ركن في غرفتي كان يغريني بعدم الذّهاب، كنت قد نسّقتها بعناية فائقة، لتتناسب مع ذائقتي، وتكون على أهبّة الاستعداد لاستقبال برد شتاء هذا العام، طليت جدرانها بلون البيج الدّاكن قبل شهرين كي يعطيها دفئًا، غيّرت موقع السّرير ليكون بعيدًا عن النّافذة فلا تلسعني نسمات الهواء الباردة المتسرّبة من الفتحة الّتي أتركها لتجديد الهواء، فرشت أرضيّة الغرفة لتمنع صقيع البلاط بالسّجّادة الصّوفيّة ذات الألوان المبهجة الّتي أهدتني إيّاها جدّتي في إحدى زياراتها لنا من القدس قبل وفاتها، وضعت مدفأة الكاز قريبًا من سريري، لأنعم بالدّفء الّذي يفتقده جسدي الضّئيل أيّام الشّتاء، احتفظت بمكان خزانة ملابسي على الجدار الملاصق للناّفذة ككلّ مرة، لم أغيّر مكان مكتبي أيضا، فقد أبقيته بالقرب من سريري، ليسهل عليّ الانتقال إليه للقراءة في الأيّام الباردة.
قرّرت أن أندسّ في سريري، وأمتنع عن الذّهاب، لكنّ إغراءات دواوين الشّعر والرّوايات والأغلفة الّتي رسمتها في مخيّلتي، وعشقي لرائحة الكتب كانت أقوى من جاذبيّة دفء الفراش، عاد لي حماسي، واستطعت أن أتغلّب على نوبة التّشاؤم الّتي أصابتني بسبب الضّوء الخافت، حاجاتي كانت تنتظرني لترافقني في رحلة الصّباح، المعطف الصّوفيّ الأسود السّميك كان ملقًى على ظهر الكرسيّ المحاذي لطاولة القراءة، تطلّ من جيبه قفّازاتي الجلديّة السّوداء، القبّعة الرّمادية المنسوجة بيدي والدتي كانت تقابله، الحذاء الأسود المبطّن بالفرو اتّخذ وضع الانطلاق بجانب السّرير، أما المظلّة فقد علّقتها على يد الباب كي لا أنساها كما كلّ مرّة، تسلّلت على أطراف أصابع قدميّ إلى المطبخ بكلّ هدوء كي لا أوقظ والدتي ووالدي ونور، لأتناول وجبة إفطار خفيفة، قطعة من الخبز مدهونة بالزّيت وعليها رشّات من الزّعتر، وجبة لا تشبع حرص والدتي علينا، ارتشفت فنجان الشّاي المطعم بالميرميّة، ثمّ خرجت بخفّة لألتحق بحافلة الطلّاب الّتي أستقلّها يوميًّا للذّهاب إلى الجامعة،

اترك تعليقك ...
900
900
زر الذهاب إلى الأعلى