بيتنا كان بسيطا، لكنه كان يطل على الكون كله….
لمبة الجاز التي كنا نشعلها في المساء ونحن جالسين حول أمي لتحكي لنا قصة(أبو رجل مسلوخة، والشمامة التي تأتي أثناء النوم لتشم أقدام الصغار) ثم تتولى أمي إفزاعنا عندما تمسك أقدامنا فجأة ونحن مندمجون في القصة فنطلق الصرخات.
التلفاز لم يكن متاحا إلا يوم الإجازة، وعندما يفتحه أبي كنا ندخل لنلعب مع( أليس في بلاد العجائب) وبمجرد انتهاء الفيلم يغلقه أبي فنخلد للنوم لنكمل القصة.
أما الهاتف الأرضي فكنت أجرب فيه أولى رحلاتي الشيطانية في معاكسة البشر (قبل أن يقفله أبي بالقفل، عندما جاءت فاتورته مرتفعة)، وهو ذات الهاتف الذي كان يدق تمام العاشرة مساء أول أحد في الشهر لنتلقى مكالمة عمي المهاجر منذ بدء التاريخ.
أوراقي المبعثرة هنا وهناك، ودفاتري المليئة بالقصص الخرافية التي كنت أكتبها منذ كنت في الثامنة، كان أبي يلقيها في (السندرة) وهو يصيح: ستصبح مجنونة، نسأل الله فقط أن تستطع إكمال تعليمها.
وفي سن الثالثة عشر بدأت أتعرف على (الست)، تمام الخامسة تبدأ الوصلة، وأكن بجوار المذياع وكوب الشاي الساخن، ويغلقه أبي عندما يمر بي ويراني شاردة فيقول بضيق(هل تحبين؟)، هو لا ينتظر إجابة بل يُكمل(لا يسمعها سوى الحشاشون)، فأجيبه: الرؤساء يستمعون إليها.
فيرد:كلهم حشاشون.
زيارات جدتي السنوية كان لها مذاقٌ مختلفٌ، تجلس على الكنبة ونجلس تحت أقدامها على (الكليم)، وتلاعبنا (تماثيل إسكندرية) حتى ترتاح من دوشتنا أطول وقت ممكن.
أمي تطبق الغسيل في يومٍ كامل وهي تدندن أغاني فيروز، وأبي يملأ المكتبة بشرائط فيروز، وعندما نركب السيارة تجلس معنا فيروز وتصدح طوال الطريق، لكنّ أبي رغم أنه فيروزي الهوى، إلا أنه اعترض على حبي لفيروز، واعتبره غير شرعي، فكما كان يقول(فتاة صغيرة مثلك لا شأن لها بالحب).
شرفتنا كانت صغيرة ، لوّح لي منها ابن الجيران، فكتبت فيه أول قصيدة، وزرعت بها حبات الفول (كما تعلمت بالمدرسة) على قطنة مبللة، وحزنت أنها نبتت فقط وسألت أمي : لماذا لم تكبر؟، فأجابت: لا مكان للجذور. بعدها بأيام سافر ابن الجيران ولم يرجع.
وضعت على إطار نافذتي صور فيروز، وكنت أرى للقمر عين ينظر لي بها، فصدقت فيروز عندما قالت:نحن والقمر جيران… بيته خلف تلالنا… بيطلع من قبلنا يسمع الألحان.
فكنت أغني له (على الرغم من قبح صوتي)، لكنّ القمر كان سعيدا ولم يتوقف عن زيارة بيتنا أبداً.
أخيراً مطبخنا العتيق ذو اللون الأخضر، كانت أمي تصنع الكعك كل يومين، فألحس العجين المتبقي وتؤلمني بطني.
أما رائحة طشة الملوخية مع الدجاج المقلي كانت تثير لعابي، فأسرق دوما(الكبدة) من الطبق، وأنال العض عقابا لي.
كنت أحب أن ألصق الصور في كل ركن بالمطبخ، وأبي ينهرني، وينزع الصور، ويطلب مني أن أتصرف كفتاة عاقلة ولو لمرة.
الآن….. المطبخ مليء بالصور والملصقات وأعمالي الفنية(الطفولية)، لكن لا وجود لأبي، لا أحد يأمرني بنزعها والتصرف كفتاة كبيرة عاقلة.
لا أحد يدرك أني ما زلت طفلة، الجميع يعاملني كامرأة كبيرة، وأنا صغيرة كورقة الغار الضعيفة التي استسلمت للريح منذ أول يوم في الخريف، أنا لم أقاوم الأيام ولكني هادنتها، ولم أنس الماضي ولكني أجترته وحملته معي في كل الحكايات.