انتبهت إلى ملابسه بينما كان متّجها نحو الكاونتر، يلبس قميصًا أبيض مخطّطًا بالأزرق، وبنطالًا من الجينز. لم تكن ثيابه منتقاة من الماركات العالميّة، ربّما أيضًا هذا ما جذبني له. لم أهتمّ يومًا بالماركات العالميّة، أعشق البساطة، ما يهمّني فقط أن تكون الملابس متناسقة ومناسبة لي، لأنسلّ بها بكلّ راحة. يبدو أنّني أعشق البؤس والفقر، أجدهما توأمين للطّيبة والبساطة. ألاحظ دومًا أنّني أميل إلى صداقة الفقراء الّذين لم تلوّثهم المادّة، ولم يتورّطوا يومًا بالفساد والسّرقة والنّهب؛ وكم أمقت الأغنياء ببذخ. أضيق بأنانيّتهم وضيق أفقهم الّذي لا يتجاوز مساحة ثقب إبرة، لا يرون من خلاله غير أنفسهم ومصالحهم وتفاهاتهم البالية؛ وكأنّ الطيّبين والبريئين منهم يأخذهم الموت، كما أخذ صديقتي الّتي كانت تصطاد النّور من بين ذرّات الغبار، لتجمعها في سلال حبّ، وتوزّعها على من خانهم الحظ، ولم يهبهم رغد الحياة. رغم أنّني أنتمي إلى الطّبقة المتوسّطة، إلّا أنّه لم يعجبني فيها يومًا من يحاول التسلّق عبثًا ليلحق بطبقة الأغنياء، وكأنّه غراب يحاول أن يلصق على جناحيه ريش طاووس، ليتساقط عند أوّل هبّة ريح، فيظهر قبحه. كانوا يطلقون عليّ لقب الرّجعيّة، وكأنّ الحضارة بنظرهم تتوّجها قشرة، ما تلبث أن تتفسّخ رويدًا رويدًا، لتظهر شحّ الثّقافة وقباحة الفكر بل أحيانا تدنّي الأخلاق. أؤمن بأنّ امتلاك جبالٍ من ماس لا يمكن أن يرتقي بنا إلى قدر فكرة تنشر عدلًا وسلامًا وأمنًا في سراديب هذه البشريّة البائسة.
عاد وبيديه فنجانا قهوة. كلّ شجاعتي الّتي استجمعتها والحوارات الّتي استرجعتها ذهبت أدراج الرّيح. ربّما كان ذلك أمرًا طبيعيًّا، فهي المرّة الأولى الّتي ألتقي فيها بشابّ لا يجمعني به سوى حديث عابر. قطع الصّمت الثّقيل بسؤاله:
لماذا تنتقين أعمال درويش؟
أجبت بارتباك محاولة تقمّص الثّقة:
ربّما لنفس السّبب الّذي يجعلك تنتقي أعماله، ربما لأنّني اشتقت إلى خبز جدتي وقهوتها، ربّما لأنّي أتوق أن أحلّق بعيدًا نحو الوطن لأعانق دحنون براري القدس، أو لأتذكّر طفولتي الشقيّة وهي تتسلّق أشجار التّين، أو لربّما لأنّي اشتقت إلى حلوى جدّتي المخبّأة بجيب ثوبها المطرّز.
أظنّنا نسعد حينما نقرؤنا بين سطور الكتب مهما كانت الكلمات قاسية ومؤلمة، فهي تمسّ مشاعرنا وأحاسيسنا. قد نكون أحد أشخاص رواية، أو دمعة في قصيدة شعر، قد نكون المنافي والغربة أو التّشرد والوجع، أو الموتى بين أنياب الظّلم والقهر.
اترك تعليقك ...