نجت نجاة….. رنت الجملة في أذني مرات ومرات بعدما استدعتنا أمي في الأسفل، تحركنا جميعاً ووقفنا حولها ؛ فأشارت لنا بالجلوس ثم بدأت تتكلم بصوتها الجهوري الواثق:
أعلم أن الجميع علم بهروب نجاة، لكن الحقيقة هي لم تهرب لأنني لا أحبس أحداً ، فالباب مفتوح على مصراعيه للجميع، أنتن فتيات في سن الرشد وما من أحد يجبركن على البقاء.
لقد طلبت مني الوزارة استبقاءكن حتى الزواج، على الرغم من أن هذا ليس من لوائح المكان، فالمكان للفتيات الصغيرات ، ومع ذلك وافقت على أن تبقين هنا في هذا البيت الكبير والطعام والشراب اللذان لا ينقطعان، لم أطالب واحدة منكن بالإيجار أو الماء أو الكهرباء، كل هذا وأجد منكن ناكرات للجميل، والآن أقولها أمامكم جميعاً، من ستفكر أن تخرج من هذا الباب أو تفعل شيئا لا أرضاه فلتخرج وبلا رجعة، ولتحتضن العالم الكبير لتعلم أين هو الدفء.
صمتنا جميعاً وأشرت أنا لها برأسي بالموافقة، لكن فيروز قطعت الصمت قائلة بسخرية:
ولكن يا أمي أين تكون الأمومة إن كنت ستأخذين منا ثمن الإيجار والكهرباء، وأين هو الطعام الذي لا ينقطع، ونحن نعمل ليل نهار من أجل صحن العدس؟!
رفعت أمي حاجبها وبدا الشرر يتطاير من عينيها وهي تجيب:
أشعر في كلامك بنبرة تمرد يا فيروز، وأذكرك أن كل ما أوتيت من علم بفضل هذا المكان وأنت تردين الجميل إن استطعت.
: نعم نعم العلم بفضل المكان، وأوزاننا المتساوية أنا وأخواتي بسبب جرعات الطعام المحسوبة بدقة منذ الصغر، ودرية التي تتبول على نفسها حتى هذا السن من الرعب والذل والقسوة اللاتي عاشتهن طوال طفولتها، كل هذا بفضل ذلك المكان.
صرخت الأم بصوت مرعب قائلة:
أنتن نتاج الخطيئة، فتيات بلا أصل ولا نسب، نطفة زنا وجريمة ليلة، ورغم ذلك تتناقشن معي …..
قاطعتها فيروز بدورها صائحة:
أنت أيضاً ابنة خطيئة، أياك أن تظني أننا لا نعلم، أياك أن تعايرينا بما أنت ملطخة به.
جرت أمي عليها وانهالت على وجهها بالصفعات ولم تجرؤ واحدة منا على منعها. كانت فيروز نحيفة جدا مثلنا تماما، بينما كانت أمي سمينة وقوية، وبعد عدة أقلام وقعت فيروز مغشياً عليها، فنادت أمي على الأم الصغيرة وأمرتها أن تلقي بفيروز في سلة القمامة الكبيرة التي بالخارج، لم يستطع أحد منا أن يعترض، حملتها الأم الصغيرة والطباخة وفعلا مثلما أمرتهم، أما نحن فأمرتنا بالذهاب للغرف وعدم التحدث مع فيروز إن رأيناها بالخارج، وتوعدت لمن ستحاول مساعدتها بأي طريقة.
طوال الليل وأنا أفكر في فيروز والبرد القارس الذي سينهش جسدها الهزيل، نظرت من خلف النافذة فلم أر أحدا، وانتظرت الصباح بفارغ الصبر لربما أجدها.
أخذت طعام الإفطار الذي لا يكفي لسد الرمق، ولكنني خبأت نصفه في كيس داخل ملابسي حتى أعطيه لفيروز، وبالفعل عندما خرجت وابتعدت قليلاً عن الدار سمعتها تناديني، وكان وجهها مكسوا باللون الأزرق وكأنها تحتضر، أمسكت بيدها فوجدتها قطعة من الثلج، فملابسها كانت خفيفة للغاية، احتضنتها وابتعدت بها عن البيت وأعطيتها الطعام، وأخذت تتمشى معي حتى وصلنا لبيت الصبي الذي سأدرس له، فأعطيتها المعطف خاصتي وقلت لها:
تدفئي به، فأنا سوف أدخل بيتا دافئا ولا حاجة لي به.
شكرتني وقالت أنها ستنتظرني حتى أخرج.
كان الصبي مدللا للغاية وعنيد، ولقد عانيت معه طوال الوقت الذي بقيت فيه، وكانت أمه تدخل كل ربع ساعة لتربت على ظهره وتدلله وتطلب مني الرفق به وعدم الإثقال عليه في المذاكرة، فهو في النهاية يتعلم فقط ليدير ميراثه من جده وأبيه.
تحملته بالكاد ولكنني قررت عمل شيء جريء من أجل فيروز، فسألت أمه وصوتي يرتعش خوفاً من افتضاح أمري:
كم المبلغ الذي اتفقنا عليه ؟
: خمسون
: الصبي صعب مراس وسأتبع معه بعض الأساليب التعليمية التي ستريحه، وتجعله يفهم دون عناء.
: حسنا هذا جيد جدا.
: ولكن ذلك سيتطلب مجهودا أكبر وبالتالي…..
وتنحنحت في محاولة مني لجمع شتات نفسي، فأكملت هي:
– هل تريدين زيادة ؟
– نعم ولكن ليس كثيرا.
– هل يكفي خمسة عشر كزيادة ؟
شعرت بالفرحة فلم أكن أتوقع كل تلك الزيادة، فأجبت بسرعة:
– حسنا سنرى.
أعطتني الظرف وشكرتها ونزلت لفيروز، ووجدت رجلاً يقف بجانب سيارة فخمة ويصيح بها، فتدخلت وسألتها عن الأمر، فأشارت إليه وقالت:
– يصرخ بي وكأن الشارع ملك له ويسألني عن سبب وقوفي.
نظر لي الرجل باستهزاء وقال:
– ومن أنت أيضا ؟
سألته بدهشة:
– لماذا ؟
صارخا قال:
– هذا بيت ابن أخي، ووجود الغرباء غير مسموح به.
فهمت الآن فأجبته بسرعة:
– أنا معلمته.
باحتقار نظر لي، ثم عاد ينظر لفيروز ويسأل:
– وتلك من تكون؟
– إنها أيضاً معلمة.
بنفس السخرية سأل:
– معلمة وتلبس تلك الثياب الرثة؟!
هتفت :
– دعها وشأنها لقد احترق بيتها ولم يتبق لها شيء ولا أحد.
صمت قليلاً وعاد يحدق بنا، ثم سألها:
– ما هو تعلميك؟
– كلية التربية.
– متى احترق بيتك؟
– مساء أمس.
– أين تسكنين الآن؟
– لا أعلم، لا مكان لي ولا أهل.
شعرت لأول مرة أن هذا المتغطرس ربما يكون طوق النجاة لها، وبعد حديث طال بينهما، سألها بعض الأسئلة وأجابته فيروز بطريقة ذكية، وجدته وكأنه يبتسم، وأخيرا قال:
– هناك فندق صغير سأتحدث معهم من أجلك، ستنامين مؤقتا في حجرة العاملات حتى ألحقك بوظيفة.
نظرت له فيروز بدهشة وقالت:
– بهذه البساطة دون تحر عني؟!
أجاب ساخرا:
– سأفعل بالطبع.