بقلم /الدكتور ناصر الجندي
كانت ساعات الفجر الأولى تتسلل عبر نوافذ المدرسة الثانوية، حين كان السيد جلال يقف وحيداً في مكتبه، يحدق في شاشة حاسوبه المحمول. على الشاشة، كانت مئات الرسائل الإلكترونية التي أرسلها إلى الوزارة خلال الأشهر الماضية، كلها تحمل “أدلة” على المؤامرة الكبرى التي يعتقد أنها تحاك ضده.
عيناه المحمرتان من قلة النوم تنتقلان بين الملفات المبعثرة على مكتبه. جدران المكتب مغطاة بأوراق ملصقة، عليها خطوط حمراء تربط بين أسماء وتواريخ وأحداث. في الركن، كاميرا مراقبة صغيرة نصبها سراً لتسجيل كل من يدخل مكتبه. هكذا بدأ سقوط السيد جلال، وكيل المدرسة المحترم، في دوامة الجنون.
قبل ستة أشهر، كان جلال شخصية مهيبة في المدرسة. قامته المديدة، نظارته الأنيقة، وابتسامته الواثقة جعلت منه شخصية محترمة. لكن كل شيء تغير في ذلك اليوم المشؤوم، حين سمع همساً عابراً بين معلمين في غرفة المدرسين. كانا يتحدثان عن تغييرات إدارية قادمة. منذ تلك اللحظة، بدأت بذرة الشك تنمو في عقله.
في البداية، كانت مجرد ملاحظات بسيطة: نظرات يظنها مريبة، اجتماعات لم يُدع إليها، مكالمات هاتفية تتوقف حين يقترب. بدأ يدون كل شيء في دفتر أسود صغير، يحمله معه أينما ذهب. مع مرور الأيام، تحولت الملاحظات العابرة إلى نظرية مؤامرة معقدة في عقله.
صار يقضي لياليه في المدرسة، يفتش مكاتب المعلمين سراً، يلتقط صوراً لأوراقهم، ويراجع سجلات الحضور والغياب بحثاً عن أنماط مشبوهة. في إحدى الليالي، اكتشفه الحارس وهو يقف في الظلام في غرفة الأرشيف، محاطاً بملفات قديمة، يهمس لنفسه: “أعرف أنكم هنا… أرى بصماتكم في كل مكان.”
تصاعدت حدة جنونه بشكل دراماتيكي. في اجتماع مجلس المعلمين، قام فجأة وألقى ملفاً ضخماً على الطاولة، صارخاً: “لدي الدليل! كلكم متورطون!” كانت أوراق الملف مجرد نسخ من تقارير روتينية، لكنه رسم عليها دوائر حمراء وخطوطاً تربط بين كلمات عشوائية، مؤمناً أنها شفرات سرية.
بدأ المعلمون يتجنبونه. الطلاب كانوا يهمسون عنه في الممرات. حتى عامل النظافة البسيط أصبح في نظره جاسوساً مزروعاً لمراقبته. في درس التاريخ، اقتحم الفصل فجأة، مقاطعاً المعلم ليشرح للطلاب كيف أن “التاريخ يعيد نفسه” وأن هناك “مؤامرة تاريخية” تستهدفه.
في منتصف الليل، كان يُشاهَد يتجول في شوارع المدينة، يرتدي بدلته الرسمية المتسخة، يحمل حقيبته المليئة “بالأدلة”. كان يوقف المارة، يفتح حقيبته ويخرج أوراقاً عشوائية، محاولاً إقناعهم بنظرياته. في إحدى المرات، دخل مركز الشرطة في الثالثة فجراً، يطالب بفتح تحقيق في “المؤامرة الكبرى”.
ذات صباح مطير، وجده المارة واقفاً في ميدان المدينة الرئيسي، تحت المطر الغزير، يلقي خطاباً حماسياً أمام جمهور غير موجود. كان يرتدي معطفه المدرسي الممزق، ودفتره الأسود يتبلل في يده، والحبر يسيل على أوراقه، مختلطاً بمياه المطر ودموعه.
تم نقله إلى مستشفى الأمراض النفسية، لكن حتى هناك، استمرت هواجسه. حول غرفته البيضاء إلى نسخة مصغرة من مكتبه، يرسم على الجدران مخططات وهمية، ويكتب رسائل طويلة إلى شخصيات من صنع خياله. كان يرى في كل ممرضة “عميلة سرية”، وفي كل طبيب “متآمراً” يحاول السيطرة على عقله.
في الليل، كان صراخه يملأ أروقة المستشفى: “أنا أعرف الحقيقة! لن تستطيعوا إخفاءها!” في لحظات هدوئه النادرة، كان يجلس صامتاً، يحدق من نافذة غرفته نحو المدرسة البعيدة، عيناه تدمعان وهو يتذكر من كان.
الممرضات وجدن يوماً، مخبأً تحت سريره، صندوقاً صغيراً مليئاً بقصاصات من صحف قديمة، وصور لزملائه السابقين، وخيوط ملونة كان يستخدمها لربط “الأدلة” على الحائط. في كل قصاصة، كان قد وضع علامات وكتب ملاحظات بخط يده المرتجف، محاولاً إثبات نظرياته المستحيلة.
حتى في عزلته، استمر في كتابة “تقاريره اليومية”. كان يكتب على أي شيء يجده: مناديل ورقية، أطباق ورقية، حتى على ملاءة سريره. كلها تحمل نفس الكلمات المتكررة: “المؤامرة مستمرة… هم يراقبونني… يجب أن يعرف العالم الحقيقة.”
مع مرور الوقت، بدأت نوبات هيجانه تخف، ليحل محلها صمت عميق. صار يقضي ساعات طويلة جالساً في زاوية غرفته، يحتضن دفتره الأسود القديم، يهمس لنفسه قوائم أسماء وتواريخ لا معنى لها. في عينيه نظرة شاردة، كأنه يرى عالماً آخر، عالماً مليئاً بالمؤامرات والأعداء الوهميين.
وهكذا انتهت قصة السيد جلال، الرجل الذي كان يوماً وكيلاً محترماً لمدرسة ثانوية. تحول من شخصية مهيبة إلى أسير أوهامه وهواجسه. في أروقة المستشفى، لا يزال صدى خطواته يتردد، وهمساته تحكي قصة رجل ابتلعته مؤامراته المتخيلة، تاركاً خلفه درساً قاسياً عن كيف يمكن للشك أن يتحول إلى وحش يلتهم عقل صاحبه.
في بعض الأيام الهادئة، حين تتسلل أشعة الشمس عبر نافذة غرفته في المستشفى، يمكن رؤية السيد جلال يبتسم ابتسامة خافتة، كأنه يتذكر من كان، قبل أن تبتلعه دوامة الجنون في رحلته المأساوية نحو الظلام.