900
900
مقالات

سلام على الصغار

900
900

بقلم / سلوى مرجان

فاتنة ثلاثينية كانت تسكن في شارعنا عندما كنا صغارا، لم تكن حياتها على ما يرام، فهي لا أب لها وتعتني بأمها المريضة وليس لها أخوة، ناهيك عن كونها أرملة وتعول طفلين.
كانت إذا غدت أو راحت بالشارع يتنهد الرجال، ولكنها لم تكن تنظر لأحد أبدا، كنا نحن الصغار من نسترعي انتباهها فتلقي علينا السلام وربما توزع الحلوى إن وجدت بحقيبتها، فأحببناها حبا جما.
وماتت طفلتها وكانت في مثل عمرنا، فشحب وجهها ولكنه احتفظ بجماله، وأصبحت واجمة مع الجميع، إلانا نحن الصغار ، تلقي علينا السلام وما زالت تعطينا الحلوى.
كان لنا جار أشعث الشعر سليط اللسان، يطاردها بنظراته، ويصيح كلما رآها تسلم علينا ولا تنظر لسوانا: ليتني طفلاً يا طيبة القلب.
وكثيرا ما كان يسبها غيظا منها، أما هي فبقيت تلك الملاك التي لا تهتم بالبشر من حولها.
ومضت السنون وكبرنا، وكبرت السيدة ولم يبق من جمالها سوى العطر، مع انحناء الظهر، مع مشية متثاقلة وعصا تتعكز إليها. وتزوجت ابنتها الوحيدة وسافرت للخارج.
وذات يوم قرر صاحب البيت طردها لأنها تعطل الهدم لبناء برج كبير، أذكر ذلك اليوم جيداً ، عندما قابلني بهاء صديق الطفولة وقد أصبح ضابطاً لكنه لم يتزوج بعد وقال لي: أستاذة فوقية سيتم طردها من البيت.
فصحت بضيق: لا يجرؤ.
فاتفقنا أن نتواصل مع الجميع ، من تركوا الشارع ومن لم يتركوه، وكنا جميعاً نحبها، لأنها الوحيدة التي كانت تقدرنا وتعطف على طفولتنا، فخبأنا لها بقلوبنا حبا كبيرا.
تواصل معنا تسعة آخرين، واستأجرنا لها شقة بنفس الشارع، وتكفلنا بنقل كل شيء لها، وصار هناك صندوق لها لجمع الإيجار منا شهرياً ، وفي كل شهر نجد المال أكثر مما اتفقنا عليه.
أما هي فكانت تصنع لنا الحلوى كلما جئنا لزيارتها شهريا، وترسل معنا الحلوى لصغارنا.
سألتها في آخر مرة زرتها بها وكانت في النزع الأخير فحاولت تذكيرها بالماضي: لقد كنت الوحيدة التي تهتمين بنا، وتسلمين علينا، رغم كوننا صغارا لا نضر ولا ننفع.
ابتسمت قائلة وهي تنظر بعيدا: كنت أسلم على المستقبل، اعتنيت بالمستقبل، فاعتنى بي.
سلام على الصغار
سلام على المستقبل

اترك تعليقك ...
900
900
زر الذهاب إلى الأعلى