1
يختبىء عربجي كارو بين براميل الخمر الرخيصة في حانة شعبية بهدف سرقة ما في درج النقود بعد إنصراف الزبائن ومالك الحانة. تنجح خطته جزئياً ويجد نفسه وحيداً في ظلام دامس. يتحرك بحذر حتى لا يحدث صوتاً يثير انتباه من يسيرون بخارج الحانة من أهل الحي. يشعر بذكاءِه وسعة حيلته وهو يعالج قفل درج النقود بآلة جهزها للغرض. الآن سينتقم من صاحب الحانة الذي يسلبه كل يوم نقوده مقابل ما يبيعه له من خمر. هو فقير منهك عمله كسائق كارو لا يجلب له سوى النكد وعادة إغراق تعاسته في الكأس. ينفتح الدرج ليجده الباحث عن الإنتقام والمال خالياً من النقود. يجن جنونه، يتخبط في أرجاء المكان المظلم كحيوان حبيس. عرض نفسه لمغامرة خطيرة دون جدوى. تفتق ذهنه عن وسيلة أخرى لجعل المغامرة مجدية. قرر أن يروي ظمأه من زجاجات الخمر المحيطة به من كل جانب. ألم يكن يريد النقود ليسددها ثمناً لذلك السائل السحري؟ هاهي زجاجات النبيذ ملك يديه دون أن يضطر لسداد مليم واحد.
شرب حتى إرتوى. ملأ بالخمر بطنه فامتلأت بالنشوة رأسه. شعر أنه “سلطان الترك والعجم”. تخدرت أعصابه وأخذ يتخيل نفسه وهو يخوض المعارك الظافرة على ظهور الخيل. راحت رهبته وأخذ يغني. مع توالي الزجاجات إنتعشت روحه فرفع صوته بالغناء بعد أن غادره الحذر، فالسلاطين المظفرون لا يحذرون أحداً، بل على الناس أن يحنون لهم الهامات. سمعه عسكري الدرك وتعرف عليه من صوته، عرف أنه العربجي. دخل مع الجندي اليقظ في حوار نم عن إستهانته البالغة بالموقف. أطلق الجندي صفارته واستدعى صاحب الحانة من بيته وتجمع المارة. الكل يعلم الآن أن بداخل الحانة لصٌ مخمور.
لم تنجح توسلات مالك الحانة اليوناني في إستمالة “سلطان الترك والعجم”. قابل السلطان تسامح الخًمَار بالتهديد بسكب زجاجات الخمر وإشعال النيران في الحانة مما يهدد بحرق المنطقة كلها. سخر من طيبة اليوناني المفتعلة وذكره بما سلبه منه من نقود طوال ما مضى. أتي ضابط القسم في رفقة جنود آخرين، ووصلت للموقع سيارات الإطفاء تحسباً لما قد يقع من كارثة. إمتلأ الشارع بأصحاب الحوانيت المجاورة الممتلئة قلوبهم بالخوف من النيران. أصاب السكان ذعرٌ عظيم. تحلى الضابط بضبط النفس في المفاوضات فحادث المخمور كأخٍ ناصح. سخِر السلطان من الضابط كما سخر من اليوناني. ذكره بيوم صفعه فيه الضابط لأن حماره بال أمام القسم. أكد له الضابط أنها كانت مزحةٌ وعاود وعده له بالخروج الآمن وعدم المساءلة.
شرب زجاجة أخرى فشعر بسطوته على العالم. وضع شرطاً لإنهاء المسألة بأن يعلن الضابط أنه “مَرَة”. صمت الضابط وأسرع صاحب الحانة ليعلن أنه مَرَة بدلاً من الضابط لعل السلطان يرضى. أمعن في عناده وتهديده وعاود الغناء. في لمحة إنفتح الباب وقبض جنودٌ أشداءٌ عليه. أطلق ضحكة عالية وأكد لهم أنه لا يملك عود ثقاب واحد.
2
شابٌ في الثلاثين من عمره يواظب على الذهاب لعمله في الدفتر خانة صباحاً، وتناوُل ربع قرش من الحشيش في المساء. يتابع حديثه اللاهي مع صاحبه الكواء بينما يستحلبان قطعة الحشيش في تلذذ. تمر أمامهما مظاهرة عامرة بالبشر والشعارات. يستشعر الكواء الخطر فيغلق دكانه ويمضي. أما موظف الدفتر خانة فلا يفرط في لحظة إنتشاء. لا يغادر كرسيه ولا تغادر عينيه النظرة الساكنة. لا يعنيه من أمر المظاهرات شيئاً. فلا هو مولع بدستور ١٩٢٣ ولا يفقه شيئاً عن دستور ١٩٣٠.
بعيداً عن مجلس الحشاش تصطف قوات الشرطة لمواجهة المتظاهرين والتحكم في الشغب. ينطلق أحد الشبان كالسهم نحو المأمور فيلكمه في بطنه موقعاً إياه على الأرض ويختفي في لمح البصر. يتوعد المأمور رئيس المخبرين بالويل إن لم يأت له بالفاعل. على المخبر الخبير أن يجد الجاني وسط آلاف الشبان. تقود المخبر قدماه إلى الجالس في شارع جانبي ناعماً بخَدَر الحشيش. يقبض المخبر الشديد على تلابيب موظف الدفتر خانة متهماً إياه بلكمِ المأمور وترويع الأمن. وبينما يحاول الحشاش تبرئة نفسه تنفجر قنبلة على مقربة.
في القسم يأمر المأمور رجاله بالاعتناء بالمجرم الذي تجرأ على التطاول عليه لكن دون أن يتركوا أثراً يراه رجال النيابة. لا تفلح تأكيدات الموظف في إبعاد التهمة أو “العناية” عن نفسه. في النيابة لا يجد نفسه متهماً بلكم المأمور، بل بإلقاء القنبلة التي أودت بحياة بشر. هكذا شهد الجنود والمخبرون الذين حضروا الواقعة. يقرر الإعتراف أمام النيابة بأنه ليس سوى حشاش ويطلب عرضه على الطب الشرعي. لكن القانون لا يرى تعارضاً بين تناول المخدرات وإلقاء القنابل فيؤمَرُ بتحويله للمحاكمة.
تستغرق محاكمته عاماً يُحرم فيه من الحرية والحشيش. في النهاية تبرئه المحكمة وترى فيه الصحافة بطلاً وطنياً فضل أن يمضي عاماً وراء القضبان عن أن يشي بزملائه من الوطنيين. يخرج من السجن الاحتياطي ويعاود جلوسه مع صديقه الكواء. يعرض عليه الأخير “صنفاً” محترماً لكنه يأبى. لقد علمه السجن كيفَ يتخلى عن الكَيْف. يصارح صديقه أنه قرر الترشح في البرلمان بناءً على مشورة البعض. تعجب الكواء كيف يترشح صديقه لمنصب كهذا وهو الذي لم يهتم يوماً بشيء. أجابه الذي أقلع عن الحشيش باسماً أنه تزوج الاهتمام في الحبس الإحتياطي والمحكمة.
3
فيما سبق عرضٌ مختصر لقصتين قصيرتين، أولاهما بعنوان “السكران يغني” والثانية عنوانها “المسطول والقنبلة”. وقد نشرت القصتان في مجموعة “خمارة القط الأسود” التي صدرت عام ١٩٦٩. وتلك المجموعة كانت أول ما نشر نجيب محفوظ من أعمال بعد حرب يونيو. وكان آخر ما نشره من أعمال قبل الحرب رواية “ميرامار” الصادرة عام 1967.