وطن على شراع الذاكرة.. رسائل تؤجج الشّوق والحنين
بقلم / هناء عبيد
ما أجمل أن نجد من يكمل كلماتنا وما يجول بخاطرنا شعرًا ومشاعرًا وإحساسًا، ومن يهدينا الأمل في سطور إهداء خُطّت من واقع مرير مرّ بآلامنا وأحزاننا، هذا ما جاء في كتاب الرسائل الأدبيّة “وطن على شراع الذاكرة” للدكتور عمر كتميتو المقيم في النرويج والدكتورة روز اليوسف شعبان المقيمة في قرية طرعان في الجليل.
صدر الكتاب عن دار الأسوار وجاء في ١٢٠ صفحة من القطع المتوسط.
غلاف الكتاب يكشف عن حنينٍ إلى الوطن، وهو أحد عتبات النصّ الأدبي، حيث البيت المهجور من أهله والشراع الهائم على شواطئ الذكريات.
الرسائل تحكي آلام الفلسطينيين ومأساتهم سواء كان ذلك في داخل الوطن أو خارجه، فقد كتب على الفلسطينيّ، أن يعيش العذاب أينما حل، عذاب الحنين والشوق في الغربة، وعذاب الاحتلال والتضييق بل وأحيانا الغربة في داخل أسوار الوطن.
وقد استطاع الأديبان أن ينقلا هذا الواقع المؤلم ببراعة، بحيث أن من عاش خارج الوطن أو داخله وجد نفسه بين السطور، واقشعر جسده لكل حدث وواقع وتفصيلة إن صغرت أو كبرت.
فقد جاءت الرسائل عفوية، صادقة، مسترسلة، شاعرية، استطاعت أن تجد لها مسربا في ثنايا قلوبنا دون تكلف أوعناء، وجاءت مواضيعها لتلامس مشاعرنا دون إقحام، بل وجدت طريقها سهلًا لا مشقة فيه ليدق جدران حنيننا.
وهنا لا بد من أخذ زاوية قد تبتعد قليلًا عن محتوى الرسائل، وجدت أنه من المهم تسليط الضوء عليها، وهي عن مدى أهمية الندوات الثقافية في فتح أبواب جسور التعارف بين الأدباء والمثقفين، والتفاعل مع الظروف المعيشية المختلفة للإنسان أينما كان من هذا العالم وفي أي بقعة وجد، وأشير هنا تحديدًا إلى ندوة اليوم السابع المقدسيّة الأسبوعيّة بإدارة الأديبة الرّاقية ديمة السمان، وأعضاء الندوة الكرام الّتي جمعت قلمين أدبيين استطاعا أن يخطّا مشاعر متشابهة رغم بعد المسافات، وكان لي الحظ الوافر أيضا بالتعرف على هاتين القامتين السامقتين من أهل وطني، إضافة إلى قامات باسقة لا يتسع المجال هنا لذكرها جميعًا.
ولعل من يقرأ هذه الرسائل يدرك تمامًا أنها لا تخص الأديبين فقط، بل هي رسائل تخصّنا جميعًا؛ نحن أبناء فلسطين، سواء كنا داخل الوطن أو خارجه، فهي تحكي واقعنا جميعًا، بل وتصف مشاعرنا بكل دقة.
فأنا على سبيل المثال، تشوقت إلى شجرة التين التي كان يلعب تحت ظلها الطفل عمر، ومت حزنًا حينما زرتها وإن كان الموقع يختلف، فهي ليست في عكا إنما في مدينتي القدس، زرتها ولم أجدها، كم بكيتها كما بكاها الدكتور عمر، فقد كانت تتحمل شقاوتنا بكل صبر، وكانت تمدنا بأعذب طعم، وأحلى نكهة.
استطاعت هذه الرسائل أن تدخل القشعريرة إلى أجسادنا، فكيف لطفل أن يعود كهلًا ليرى بيته الذي يحمل كل ذكرياته وقد سكنه الغريب دون أي حق، أي ظلمٍ أكبر من هذا؟
إن مثل هذه الرسائل، تعتبر أكبر توثيق لمأساتنا الفلسطينية، ولعلها تكون أكبر تعويض عن غياب قضيتنا من الذكر، ودحض للإعلام الأصفر الذي يقول أن الأرض ليست أرضنا، لقد استطاعت هذه الرسائل أن تثبت للجميع سواء بالصور أو بالذكريات التي تسكننا حتى بعد البعث أن الأرض أرضنا، وأنها ستعود ولو بعد حين.
تخلل الرسائل قصائد شعرية للأديبين وكأن أحد القصائد تكمل الأخرى، حيث توافق الأفكار والمشاعر والأحاسيس فجاءت لغتها متناغمة ومتناسقة، وهذا ما حدث في معظم لغة الرسائل التي كانت تسير في وحدة لغوية متشابهة.
وكما توقعت فقد شدتني عذوبة اللغة وشاعريتها وانسيابيتها، فهي ليست المرة الأولى التي أقرأ فيها أعمال الأديبين، إذ كنت قد اطلعت سابقًا على عمل مسرحي للدكتور عمر كتميتو بعنوان “بيت ليس لنا” وتشرفت بكتابة مقالة كاملة، تحدثت فيها عن هذا العمل الأدبي القيم، كذلك قمت بعمل فيديو في قناتي باليوتوب تتناول هذا العمل من جوانبه المختلفة، كما أسعفني الحظ بقراءة بعض أشعاره الّتي تدخل القلب دون استئذان بسبب شاعريتها وصدق أحاسيسها، وكذلك الأمر مع الدكتورة روز اليوسف الّتي تشرفت بقراءة ديوانها “أشواق تشرين” الذّي يحمل معه نسائم وطنية رقيقة، ومشاعر تنطق بأعلى صوتها بأنها مشاعر الدكتورة روز اليوسف، فهي تشبهها في أحاسيسها ونبضاتها ورقتها، وقد كان لي الشرف أيضا بكتابة مقالة كاملة عن هذا الديوان.
وأظنني وغيري ممن أبعدوا قسرًا عن الوطن، جذبهم الحنين والشوق إلى ذكرياتهم الّتي انغرست في الذاكرة، خاصة هؤلاء الذين ذاقوا عسل وحلاوة العيش على أرض الوطن ولو لفترات قصيرة، فأصبحت مرارتهم مضاعفة، حينما وعوا وقد أصبحت الحواجز التي تحولهم عن الوطن كترسانة صلبة لا يمكن اجتيازها إلا بالمشقة، لهذا بكينا بيت الدكتور عمر الذّي هو بيتنا كما بكاه، وانغرست سكاكين الألم في قلوبنا ونحن نرى الغريب وهو يدنس أرضنا بكل وقاحة.
ولكن رغم البعد إلا أن الوطن يشتاق إلى ذلك الطفل الذي تعلقت بذاكرته كل ألوان الجمال، فالأمل موجود بالعودة لا محالة، والذكريات العالقة في الروح لن تنمحي يومًا، وستظل شوكة تؤرق راحة المحتل الغاشم، فلن يهنأ يومًا بأرض اغتصبها، سيظل الحنين إلى الأرض والشوق إلى الأحبة بندقية تهدد مضجع هذا المغتصب.
رسائل وطن على شراع الذاكرة، رسائل تؤجج الحنين إلى الوطن، فتبكينا تارة وترسم الابتسامة على وجوهنا تارة أخرى، تؤلمنا وتسعدنا، تسقمنا وتشفينا، إنها رسائل الأمل والبشرى بأن الحق عائد؛ رسائل إنسانية شاعرية تضيف قيمة أدبية إلى أدب الرسائل وإلى رفوف مكتباتنا العربية.