الكتاتيب ودورها في تعلم الفصحى.. وتجفيف منابع الإرهاب
بقلم / د. غانم السعيد
عميد كلية اللغة العربية بالقاهرة جامعة الأزهر السابق
كان الكُتَّاب قديما يقوم بالدور الأساس في تعليم الأطفال القراءة والكتابة ومبادئ الحساب، وقبل ذلك وبعده تحفيظ وتجويد القرآن الكريم، وكان كثير من شيوخ تلك الكتاتيب يحفِّظون التلاميذ المتون التعليمية التي تجعلهم يتفوقون في دراستهم للعلوم التي جُمِعَت قواعدها في تلك المتون كألفية ابن مالك في النحو والصرف وغيرها.
وكان الطفل حينما يستوفي كل هذه الأمور يلتحق بالأزهر الشريف – في غالب الأحوال- أو بالتعليم العام.
وكثير من عظماء مصر الذين احتلوا مكانة عظيمة في تاريخ العلم والثقافة، وسجلت أسماؤهم بحروف من نور في صفحات التاريخ المصري كان الكتَّاب هو المصدر الأول لتعليمهم، ومن أمثلة هؤلاء في العلوم النظرية، رفاعة رافع الطهطاوي باعث النهضة في العصر الحديث، والإمام محمد عبده رائد التنوير، والأستاذ لطفي السيد مؤسس جامعة القاهرة وأول رئس لها، وعبد الوهاب عزام العالم والفيلسوف، وطه حسين عميد الأدب العربي،
وأمير الشعراء أحمد شوقي، وشاعر النيل حافظ إبراهيم، وفي العلوم التطبيقية نجد إينشتاين العرب علي مصطفى مشرفة ، وعبد الوهاب مورو ، ويحي المشد، وأحمد زويل، وفي السياسة نجد الزعماء الوطنيين مصطفى كامل، ومحمد فريد ، وسعد زغلول، والرئيس السادات.
ولما تم التوسع في المدارس الابتدائية على مستوى الريف في القرى والنجوع والكفور، وأنشأ الأزهر المدارس الإبتدائية ولم يعد يعتمد على الكُتِّاب كمصدر أساس للالتحاق بالأزهر، قلَّ الاهتمام بالكتاتيب والعناية بها فأغلق كثير منها أبوابه، وقد انعكس ذلك على مستوى التلاميذ فضعف مستوى التحصيل عندهم، ولم يعودوا يهتمون بتعلم الكتابة والقراءة وقواعدهما كما كان يفعل شيخ الكُتَّاب، ثم كان الخطر الداهم والأمَرُّ أن الاهتمام بحفظ القرآن وتجويده لم يعد بالقدر المطلوب، ففقد التلميذ أهم داعم له للتفوق، لأن حفظ القرآن ليس عبادة فقط ، وإنما هو يُمَكِّن لسان التلميذ من النطق الصحيح للغة العربية ، كما يساعده – أيضا – على ضبط لسانه لغويا، فمن يحفظ القرآن قلما يخطئ في اللغة أو يلحن فيها حتى ولو لم يدرس علوم اللغة من نحو وصرف وغيرهما، كما أن القرآن – أيضا – يمد حافظه بطاقة إيجابية وإرادة حديدية تجعله يصبر على طلب العلم – أيا كان نوعه – فيحقق التفوق والتميز، ولقد أدرك إخوتنا المسيحيون هذه القيمة للقرآن الكريم فحرص كثير منهم على أن يحفظوه لأبنائهم، فكانوا يرسلونهم إلى الكتَّاب مع إخواتهم من أبناء المسلمين لحفظ القرآن، وكان كثير منهم مع حفظهم للقرآن الكريم يقومون بتجويده ويأخذون الإجازات في القراءات عن الشيخ.
وأذكر في ذلك موقفا حدث معي تعجبت له كثيرا، واندهشت منه، فقد دعاني أحد الزملاء لزيارته في قريته بإحدى محافظات الصعيد، وهناك التقيت بشيخ ُكُتَّاب أصر على زيارتي له، فلما ذهبت وجدت أن أعداد الأطفال أكثر من تلاميذ المدرسة حيث يأتون من قرى متعددة، والمفاجأة التي لم أتوقعها أن الأطفال المسيحيين أكثر عددا من المسلمين، وأن من يحفظون القرآن كاملا ويجودونه أكثر منهم أيضا، وقال لي الشيخ: إن أولياء أمورهم يدفعون لي أجرا ضعف ما يدفعه المسلمون، و لما سألته عن سبب حرصهم على حفظ القرآن؟ قال : إنهم يريدون أن يعلموا أبناءهم النطق الصحيح للغة العربية، كما أنه ييسر لهم تعلمها، – وأيضا- يمدهم بهمة وعزيمة تجعلهم يتفوقون في دراستهم.
وفي الآوانة الأخيرة بدأ الكتاب يستعيد دوره من خلال الأزهر الشريف، الذي أصدر تراخيص لكثير من الكتاتيب في القرى والعزب والنجوع، وبنفس الهمة فعلت وزارة الأوقاف هذا الأمر في كثير من مساجدها على مستوى الجمهورية، كما رأينا المقارئ القرآنية التي تعقدها الوزارة في المساجد الكبرى ويحضرها كبار المقرئين للقرآن الكريم، ومع التقدير العظيم لهذه الجهود المبذولة، فإنني أقترح إنشاء درجة مالية باسم ( شيخ الكتاب) وأن يكون رابطها مغريا، وأن يكون التعاقد عليها من خلال مسابقة للحاصلين على كلية أصول الدين، وكلية الدعوة، واللغة العربية، والشريعة، والأقسام المناظرة لهن في كليات الدراسات الإسلامية والعربية، وأن يعقد للمتقدم امتحان في القرآن الكريم وبعض العلوم الشرعية كالتفسير والحديث، والتجويد، وأن يكون التعاقد معه لمدة عام يجدد له كل عام عندما تثبت جدارته في أداء مهمته، وأن يكون مقر الكّتَّاب في المسجد الجامع، وأن لا تقتصر مهمته على تحفيظ القرآن الكريم فقط وإنما يفسر الشيخ للتلاميذ ما يقومون بحفظه تفسيرا ميسرا يتناسب مع عقولهم، وبهذا نجفف منابع الإرهاب منذ الطفولة، حيث إن التلميذ سيتنقل في مراحل الدراسة المختلفة ويتخرج وفي عقله هذا الفهم الوسطي للإسلام الذي تلقاه في مقتبل حياته، وبهذا يكون قد تم تحصينه من أي فكر متطرف، أو جماعات مارقة ممن يحاولون السيطرة على عقول الشباب بأفكارهم الهدامة.